لم يكن للتراث العمراني في المملكة العربية خطة واضحة مع بداية تأسيس أجهزة الدولة في عهد الملك عبد العزيز، من حيث المحافظة عليه وتطويره، أو في مراحل التخطيط للبنى التحتية في مختلف مناطق المملكة، خاصة بعد إنشاء أمانات المدن في كل من الرياض ومكة وجدة والمدينة والدمام، مرورا بتأسيس البلديات وإنشاء وزارة الشؤون البلدية والقروية. ولو نظرنا للوراء قليلاً وتحديداً في عهد الملك عبد العزيز لوجدنا هوية معمارية متوازنة جمعت بين الأصالة والحداثة في المباني الخاصة وفي منشآت الدولة في عدد من مناطق المملكة التي بقي أمثلة منها مشاهد حتى اليوم. غير أن مما يؤسف له أنه عندما بدأت الدولة في تنفيذ الخطط الخمسية، لم يؤخذ في الاعتبار المحافظة على التراث العمراني والثقافي، بل كان البعض من المخططين والمتنفذين ينظرون إلى المعالم المعمارية والتاريخية أنها مبان آيلة للسقوط وبقاؤها معيب، وأنها معيقة لحركة التطوير، والحل الأفضل هو إزالتها. وقد بدأ الناس منذ وقت مبكر، خاصة مع بداية الطفرة الاقتصادية للمملكة، في هجر البلدات القديمة وأواسط المدن والقرى التراثية بالتدريج، حتى أصبحت منازلهم وحصونهم وقصورهم خاوية على عروشها. وأزيلت العديد من المباني والأحياء بهدف التحسين، وإدخال الخدمات العصرية من طرق وكهرباء ومياه وغير ذلك. وحلت المباني الخرسانية محل المباني التراثية الطينية والحجرية بطريقة عشوائية، ولم تأخذ تلك المرحلة في الحسبان المحافظة على التراث المعماري القديم ووضع معايير موزونة للمحافظة عليه عند تنفيذ العمارة الحديثة، وبهذا أصبحت العمارة العصرية في مختلف مدن المملكة بلا هوية. وعلى الصعيد التعليمي والأكاديمي كذلك كانت النظرة ضيقة في هذا التوجه ومحدودة التطلعات، حتى مع بداية تأسيس كليات العمارة في جامعاتنا، فقد اقتصرت الخطط الدراسية فيها على مواد تكميلية تتعامل مع التراث العمراني، ولم يكن إدراج هذه المواد بهدف المحافظة عليه واستثماره بل إنها لم تتمكن من تأسيس مدارس فكرية مثالية للعمارة القديمة. وعند تأسيس أول قسم للآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود كنّا ننظر للعمارة التقليدية في المملكة العربية أنها جزء من مناهج الآثار، وأنها متصلة مع التراث المعماري المتراكم على مر العصور. ولم يكن يتوفر لدى القسم مادة علمية أو دراسات وثائقية عن التراث العمراني وكان اعتمادنا في التدريس على المعلومات المدونة في كتابات الرحالة الغربيين ومذكرات وانطباعات رواد الأدب السعوديين من أمثال حمد الجاسر وعبد القدوس الأنصاري وصالح العبودي وسعد بن جنيدل وغيرهم. وكانت إدارة الآثار السعودية، في بداية السبعينيات الميلادية، قد بدأت برنامج المسح الأثري الشامل, وأصدرت كتاب: مقدمة في آثار المملكة العربية السعودية، الذي يعد أول مطبوع يصدر عن جهة رسمية، ويشتمل الكتاب على صور فوتوغرافية وشروحات مختصرة لبعض معالم التراث العمراني في المملكة، وكان ذلك دلالة واضحة بأن هذا التراث عنصر مهم من آثار المملكة. كما حاولنا في الجامعة توجيه الطلاب نحو دراسة التراث العمراني وعناصره الهندسية والزخرفية، وقدم بعض الطلاب دراسات بحثية أكاديمية مميزة. ومما يؤسف له أن التراث العمراني لم يدخل كعنصر أساسي في خطط التنمية في المملكة وبقي تتناهبه الظروف. ولعل إدارة الآثار هي الجهة الوحيدة التي تمكنت من المحافظة على عدد من قصور الدولة التاريخية التي كانت مقرات للإدارة والحكم، بالإضافة إلى عدد من المنازل ذات الطابع المعماري التقليدي وعملت على توثيقها، غير أنه صَعُبَ على إدارة الآثار الاستمرار في المحافظة على المدن التاريخية التي حاولت تَملُّكها مثل قرية سدوس وحي الدرع في دومة الجندل وحي الديرة في بلدة العلا القديمة، بينما تمكنت من المحافظة على حي الطريف في مدينة الدرعية التاريخية، وعملت على توثيق معالمه المعمارية، وشرعت في رسم خطة للترميم الإنقاذي للأسوار والأبراج وبعض المباني، وأنشأت مركزاً للزوار للتعريف بتاريخ الدرعية وتراثها المعماري. وشهد عام 1419ه مرحلة جديدة مشجعة تؤكد على أهمية التراث العمراني والتاريخي، تمثل في إنشاء مركز الملك عبد العزيز التاريخي، الذي نفذ بإرادة من الدولة، وبإشراف مباشر من سمو أمير منطقة الرياض، ليتزامن مع مئوية توحيد المملكة، واشتمل المشروع على مقر لدارة الملك عبد العزيز والمتحف الوطني الذي يعد أكبر عنصر في هذا المشروع الرائد، و روعي في المشروع المحافظة على قصر المربع التاريخي، والمباني الطينية المحيطة، وضم المشروع مرافق عديدة وحديقة جميلة على قدر كبير من الاتساع شكلت نقطة جذب للزوار. كان هناك اهتمام من سمو أمير منطقة الرياض بالتراث العمراني، لإيمان سموه بأهمية المحافظة عليه، وبرزت جهود سموه بإنشاء الهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض، وبرزت بصمات سموه في تنفيذ حي السفارات، ومشروع تطوير منطقة قصر الحكم، ويعد مشروع تطوير الدرعية و وادي حنيفة أنموذجا رائداً، ليس فقط في المحافظة على التراث العمراني فحسب بل في الموائمة بين القديم والجديد وربط الماضي بالحاضر. كان بالإمكان تعميم تجربة الرياض على باقي المناطق، لكن هذا لم يحدث على الإطلاق، وبقيت وكالة الآثار والمتاحف هي الجهة التي يوجه إليها الاتهام في التقصير بالرغم من تبنيها لعدد من المشاريع المهمة تسجيلاً وتوثيقاً وترميماً وتوظيفاً، ومن أبرز مشاريعها ترميم قصر إبراهيم ومسجد القبة في الهفوف وقصر القشلة في حائل ومعالم معمارية تاريخية في عدد من مناطق المملكة. قصدت من هذه المقدمة التأكيد على أن التراث العمراني لا يمكن رعايته وحصره والمحافظة عليه وتوظيفه واستدامته إلا بوجود خطة وطنية شاملة تشارك فيها كافة أجهزة الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المحلي، وعمل مثل هذا يحتاج إلى رؤية واضحة وخطة ذات بعد تاريخي وثقافي واجتماعي واقتصادي. ولا بد لهذا العمل من شخصية قيادية تتابعه وتعمل على إحيائه ليبقى شاهداً لتاريخ عميق الجذور وربط الماضي بالحاضر وإطلالة نحو المستقبل. وكانت البداية تأسيس الهيئة العليا للسياحة وتعيين الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز (أميناً عاماً لها) وتلا ذلك صدور قرار الدولة بضم وكالة الآثار والمتاحف لهيئة السياحة وتأخذ مسمى (الهيئة العامة للسياحة والآثار). وهنا يأتي دور الأمير سلطان بن سلمان، القائد المتمكن ليبرز للوطن وللدولة من خلال المهمة الملقاة على عاتقه، أهمية التراث العمراني والمحافظة عليه وتنميته. وتجربة سموه مع التراث لم تكن طارئة ولم تبدأ مع عمله الحكومي، بل سبق ذلك عشق قديم وتعامل مباشر مع التراث بصفة شمولية والتراث العمراني على وجه أدق. وقد أثمرت جهود سموه المتوقدة خلال توليه المسؤولية في إدارة شؤون السياحة والآثار، والتخطيط لهذين القطاعين، وما يلزم لكل منهما من جهد علمي وفني وإداري وسياسي على المستوى الوطني والدولي. يطل علينا سموه برؤية واضحة وتأملات وتطلعات نحو أمل مشرق بحول الله للنهوض بالتراث العمراني في المملكة. هذه الرؤية يضعها الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، بين أيدينا، في كتاب يحمل عنوان (سيرة في التراث العمراني) يتناول فيه سموه، بموضوعية، رصد دقيق لمسيرة التراث العمراني في بلادنا. صدر هذا الكتاب تزامنا مع المؤتمر الدولي الأول للتراث العمراني في العالم الإسلامي، الذي عقد في مدينة الرياض برعاية خادم الحرمين الشريفين (9-14 جمادى الآخرة 1431ه-28 مايو 2010م). يقع الكتاب في 292 صفحة، ويشتمل على مقدمة و ستة فصول وخاتمة، وهي: التراث العمراني: كيف ولماذا؟ التراث العمراني مواقف ورؤى فكرية؟ بين التراث والتعليم، فضاءات للتخطيط العمراني الإنساني، الهوية والطابع المعماري معادلة التراث الصعبة، إدارة التراث.. من الفكرة إلى العمل المؤسساتي. ويختم الأمير سلطان بقراءة مستقبلية للتراث العمراني. إن من يقرأ هذا الكتاب سواء من المتخصصين في مجال العمارة أو من عشاق التراث العمراني ومن عامة الناس سيجد أن الأمير سلطان بنى رؤيته ورحلته مع التراث منذ فترة مبكرة، إيماناً منه بأن التراث العمراني جزء لا يتجزأ من تاريخ الوطن وحضارته، ومنه نستمد مصدراً مهماً للمعرفة. ولعلي كنت ولا زلت من القريبين جداً للأمير سلطان، وأعرف غيرته وحرصه على بقاء التراث العمراني في بلادنا نابضاً بالحياة، وامتد اهتمام سموه بالتراث خارج الحدود خاصة فيما يتصل بالتراث العمراني العربي والإسلامي. وقف الأمير سلطان بن سلمان ميدانيا على واقع التراث العمراني في مختلف مناطق المملكة، وشارك عبر السنوات في ندوات محلية وقارية ودولية حول التراث، وقدّم آراء متعددة عن التراث وأبعاده الحضارية والاقتصادية. كما اطلع سموه بشكل مكثف على العديد من التجارب الفريدة في كثير من بلاد العالم التي لها السبق في المحافظة على التراث العمراني وتوظيفه اقتصاديا دون الانتقاص من أهميته الحضارية والتاريخية. ينطلق فكر الأمير سلطان حيال التراث العمراني من نظرته للأسس والثوابت للمجتمع والتاريخ الثري للرقعة الجغرافية للمملكة، وتقاطع الحضارات عليها عبر العصور. توقفت عند الكثير من الأفكار والرؤى المرتبطة في فصول الكتاب وهي رسائل أحببت أن يشاركني القراء في تدبر معانيها وأبعادها. وأعرضها في الآتي: 1- «علينا أن نتذكر الماضي من أجل بناء المستقبل» (ص:16) 2- «علاقتي بالتراث بعيدة عن العاطفة فما أشعر به نحو موروثنا الثقافي والعمراني ليس حنيناً وليس بكاء على الأطلال، بل قناعة بجدوى هذا التراث في حياتنا المعاصرة» (ص:28). 3- «التراث هو الذي يصنع خاصية التذوق عند الناس» (ص: 30). 4- «لا أريد أن يفهم بعض الناس أن التنمية تتعارض مع المحافظة على التراث وترسيخه في نفوس أبناء الوطن، كما أن التراث نفسه لا يتعارض مع التطور والأخذ بأسباب الجديد، ومن يرى هذا التعارض يحاول في حقيقة الأمر وضع العربة أمام الحصان...» (ص ص: 75-76). 5- «المحافظة على التراث هي من أجل حماية المستقبل من التشوه، وتفعيل الذاكرة التاريخية لهذا الوطن، لينهض في مواجهة التحديات فوق أرضية صلبة وبتوازن واثق» (ص:76). 6- «من أهم الجوانب الإنسانية التي تعلمت منها الكثير هي كيف يمكن أن نضع وعياً محلياً يحترم التراث ويعتني به» (ص: 182). 7- «أنا أنتقد وبشدة أولئك المعماريين (التلقيطيين) الذين ينقلون أشكالاً من مصادر متعددة ويجمعونها في تصاميم معمارية مثيرة للحزن» (ص: 200). والواقع أن الكتاب غني بالكثير من المعلومات عن الجهود والتحولات المتصلة بالتراث العمراني واستشعار المواطنين وملاك التراث العمراني بأهميته، وقد بدأت جهود الأمير سلطان مشاهدة على أرض الواقع. وإذا كانت الرحلة طويلة ولم تزل في بدايتها فإن الألف ميل يبدأ بخطوة. «وإذا صحّتْ العزائمُ فيها فالمرامُ البَعيدُ ليس بعيدا» وكما يقول الأمير سلطان في الورقة الأخيرة من هذا المؤلف: «ما يقدمه هذا الكتاب بشكل عام هو حكايات ومحاولات تقدم التراث العمراني كمخزون ثقافي واقتصادي له ثقله وتأثيره في تشكيل المستقبل». حقاً فإن هذا المؤلّف غني بالأفكار والتحديات والأحلام الواقعية نحو التراث العمراني. ويعكف الأمير سلطان على إعادة إصدار هذا المؤلف في طبعة جديدة منقحة، كما أن سموه يعمل الآن على إخراج كتاب أكثر تفصيلاً عن تجربته مع التراث، وقد أحسن سموه صنعاً في إشراك الدكتور مشاري النعيم في جمع مادة الكتاب من سجلات ووثائق الأمير الخاصة والدراسات والخطط التي اضطلعت بها الهيئة العامة لللسياحة والآثار ومؤسسة التراث. شكراً للأمير سلطان بن سلمان على هذا الجهد ونسأل الله أن يحقق آماله في رعاية تراثنا المعماري. e.mail:[email protected]