السحب الرمادية تغطي السماء، والبحر يعلو موجه بالتدريج. تلفتت حواليها. كان الكورنيش خالياً إلا من فتى وفتاة جلسا على صخرة يعدان النقود، وعقود الفل التي ذبلت. تبسمت لضحكاتهما الصاخبة، وواصلت السير. نغمات فيروز تتصاعد من حقيبتها، فتمد يدها لتخرج الهاتف. صوت أمها يمكن لمن يمر بالقرب منها أن يسمعه، وهي تستحلفها بالرحمة المرجوة لأبيها وأختها ألا تتأخر. تعدها برحمة أبيها أنها لن تتأخر، ثم تضع الهاتف في الحقيبة وتهمس: مسكينة يا أمي. بس أعمل إيه علشان أريحك. على رغم قلق أمها، وتحذير الطبيب، إلا أنها ذهبت إلى مدينتها الأثيرة. أقنعت أمها أن تقضي فترة الاستشفاء قرب البحر الذي عشقته، وفي عمق المدينة التي لا تأتيها إلا شتاء. تحسست بطنها التي لا تزال مجروحة. قالت له في رسالة عابرة: بعد العملية الجراحية أشعر أن تلك الروح التي كانت ضاجة بالحياة حد الجنون صارت في حالة موات. حتماً لست أنا التي خرجت من باب العمليات في الطابق الأول من المستشفى «الفرنساوي» في القاهرة. حتما ليست هذه أنا التي قاموا باستئصال جزء من رحمها. أنا هناك بين فراغات هواء ما. روحي تركتني وتسربت مني. كنت ألمحها في ليالي المستشفى المظلمة تسير في الطرقات الباردة، وتقفز بين أقدام المرضى والزائرين، وكنت أناديها لتأتيني لكنها جهلتني تماماً. الجالسة الآن تكتب نيابة عن روحي ليست أنا. ضغطت بالسهم على حروف اسمه، فانفتحت الرسالة التي بدأها: إلى المرأة التي لا تعرف كم أسرتني حروفها، لا تتصوري كم سعدت وأنا أراك تتفتحين كزهرة برية! وكم أنا مشتاق حقاً لتفتحك هذا. لا تهتمي بالصيغ ولا بالترابط ولا بتحديد المعنى، انتقلي من موضوع إلى آخر، لأن لحظات البوح قانونها صدق وعُرْي وشفافية وتحرر بلا ضفاف، وثقي بأن من ينتظر هطولك، ليس أكثر من نفس تواقة لتحقيق تواصل مع ذات امتلكت الجوهري في الأنوثة والعميق في الإنسان، وما أود قوله ليس إلا عزفاً على وتر واحد مشدود على قوس تشكل من يقين عندي بأنك ما زلت تصخبين بثراء الأنثى الخلاقة، وما تتصورين أنه قد انسل منك، ليبقى في فراغات ذلك المستشفى لم يغادرك قط، بل ازداد عمقاً ورسوخاً وتعتقاً ونضجاً فيك. حزينة عيونك. عيونك بوابة روحك الأشد حزناً. في عيونك تسكن روحك. وحين يأتي من يرى روحك الصادقة سترين نفسك في عيونه جميلة وشهية، ومغوية. فقط يأتي من يبصر داخلك. ظهر من بعيد مجموعة من الرجال يفترشون الرمل ويضحكون بصوت عال. ضحكهم أعادها حيث تسير ببطء نحو مكانها المفضل. تسلل إلى قلبها خوف غامض، وفكرت في الرجوع، لكنها أصرت أن تذهب إلى المكان الذي تعودت أن تجلس فيه، وتنفرد بذاتها. احتلت مساحة نظرهم، فصمتوا فجأة حتى تجاوزتهم. بدأوا يرددون تعليقات عن كونها وحيدة، وعن استعدادهم لإيناس وحدتها. توقفت ونظرت إليهم نظرات لا تدل على شيء، ثم سارت في طريقها. قال واحدهم الذي لم يشترك في تعليقاتهم الفجة: حزينة عيونك، حزينة ومؤلمة. هل تعودين غداً؟ حين تعودين ستجدينني بانتظارك. قال جملته، وغير نظرته إلى البحر الذي هاج كأنما يحتفي بمرورها المألوف أمامه. واصل الرجال صخبهم. وهرب هو كأنه لم يقل شيئاً ذا بال. واصلت هي السير. هل كانت تسمع ضحكاتهم حقاً؟ هل هو الذي قال جملته، أم استدعتها من صندوق بريد إلكتروني، وتخيلت أنها تسمعها من واحدهم؟ هل ارتعش قلبها وهمست لنفسها: ترى لماذا يضحكون؟ هي لم ترهم. ولم تسمعهم. فقط تجاوزتهم، لكنها توقفت قليلاً أمام جملته التي أطلقها وهرب بنظراته صوب البحر. توقفت، وفكرت هل يعنيها هي، أم يحادث أحداً ما احتل ذاكرته؟ لكنها لم تنصت لهمس روحها: هو يقصدك أنت لا أحد غيرك. بعد جلستها المنفردة على شاطئ وحدتها عادت، فلم تجدهم، ولولا آثارهم على الرمل المبلل، وعلب السجائر الفارغة، وحفر أقدامهم، لقالت إنها تخيلت وجودهم، كما تخيلت جملة أحدهم الذي نظر إلى البحر حتى يهرب من عيونها الحزينة المربكة. عادت صباحات كثيرة ومغارب أكثر. كانت تود أن تسأله: أي حزن تقصد وأنا أملأ دوماً حياة من حولي فرحاً ومحبة، ولكنها لم تجده. وغرقت روحها في حزن لا يظهر إلا حين تختلي بذاتها. طالما كانت تتظاهر بالقوة. تتظاهر بأنها لم تتوجع أكثر لكل رحيل فاجأها ذات صبح وآلم روحها. كانت تمارس لعبة قنص من يهجرونها هكذا من دون مبرر. فقط حين تمتلئ بهم يقررون الرحيل. وفقط ساعتها تقتنص روائحهم وتصنع منها تعويذة لرحيل قادم وفقد محتوم. خزانة آلامها ممتلئة عن آخرها. ترتبها كل حين. وتزداد قسوة. من يراها يظن أنها امرأة ذات بأس. لكنها في الحقيقة تخفي روحها الهشة خلف قسوتها تلك. تخشى أن يروا روحها، فتتظاهر طوال الوقت بالصخب والضحك. تشاكس هذا وتمزح مع ذاك، وأبداً لا تسمح لأحد أن يراها كما هي. بالأمس حلمت بالوجه ذاته يقترب، ثم يضيع في فراغ لا نهائي، ثم يعود ليقترب ثانية، ويعود ليهرب، وكأنما هو مشدود بطرف خيط في يد مجهولة. وكأن الوجد الطافح من عينين تائهتين في ذلك الفراغ شده، فقاوم قدر روحه ليفلت من اليد التي تشده بعيداً. وهي لما لم تجد من يعرف كيف ينظر في عمق روحها قررت أن تضرب سياجاً من العمى حولها. لا تعرف هل أفلحت؟ لكنها باتت تنتظر رسائله وكأنها هي المنقذ الوحيد من وجد يذيب قلبها.