لم يكن في طفولته ومراهقته يلاحق أخبار لاعب أو فنان، وإنما وجد نفسه معجباً بالإليكترون ومبهور بنواة الذرة. وواقع في غرام التعرف على مكوناتها، وفي مرحلة الثانوية دخل في علاقة غرامية مع الهندسة الكهربائية والإلكترونية فتوج هذه العلاقة بدراسة تخصص الهندسة الإلكترونية. وبعد التخرج انهارت أمام هذه العلاقة «المفاعلات النووية « فخطبت وده وجذبته أكثر، فكانت الولاياتالمتحدة الأميركية وجهته ليتعمق في دراسة الهندسة النووية، والتخصص في دراسة مفاعلات الماء الثقيل. ويجد أن دراسة الهندسة دفعته أكثر إلى القراءة والاهتمام بفنون الشعر والأدب والبلاغة والرواية، وزادت من تعلقه بالرياضة والأنشطة الثقافية والرحلات والعمل التطوعي. لم يجد نفسه يوماً يعاني من خيبات النفس، ولكنه كان يمنّي نفسه بتحقيق أحلام كبيرة.... الدكتور توفيق القصير طاقة لا تنضب، وللحديث معه تفاعل نووي... فإلى تفاصيل الحوار: أي شيء جعلك تخطب ود الإلكترون المفاعلات والماء الثقيل؟ - منذ كنتُ طفلاً في المرحلة المتوسطة، وأنا معجب بالإلكترون ومبهور بنواة الذرة، ومغرم بالتعرف على مكوناتها. وعندما دخلت المرحلة الثانوية، ارتسم في مخيلتي الهيام بدراسة الهندسة الكهربائية والإلكترونية، إذ إنها من أعمال ذلك الإلكترون العجيب، وناتجة من حركته. فدرست الهندسة الكهربائية في جامعة الملك سعود-كلية الهندسة تخصص الهندسة الإلكترونية. وعندما تخرجت في كلية الهندسة، بدأت المفاعلات النووية تخطب ودي وتجذبني إليها، وتشدني بقدراتها الخارقة. عندما ذهبت للولايات المتحدة لدراسة الهندسة النووية تعرفت على المفاعلات النووية بأنواعها، وهنا أحسست برغبة قوية في دراسة مفاعلات الماء الثقيل، وذلك لأسباب عدة، أهمها درجة الأمان لهذه المفاعلات، انخفاض كلفة الوقود، كما أن عملية إضافة الوقود الجديد وإزالة الوقود المستعمل تتم بطريقة آلية مبتكرة، هي الأكثر اقتصاداً وأماناً للبيئة والعاملين في المفاعل، كما تستعمل الماء الثقيل مبرداً للمفاعل. تخصصك في الهندسة.... هل جعلك تهندس كل شيء حولك؟ - دراسة الهندسة وبما أنها تعتمد بصورة رئيسية على علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وتفرعاتها الدقيقة، فإنها تُكسِب الدارس احترام المنطق واستعماله في الحياة العامة. ومن هنا نجد الكثير من الناجحين في أعمال الإدارة والتخطيط في الشركات وفي القطاع العام قد انحدروا من خلفيات هندسية خلال دراساتهم الجامعية بصورة ما. ويظن الكثير أن التخصصات الهندسية صعبة وجافة ويهيمن عليها المنطق بطريقة تؤدي إلى عزوف صاحبها عن الآداب والفنون والقراءات العامة وحب الاطلاع والاستمتاع بالحياة. دراسة الهندسة - بالنسبة إليّ -، دفعتني إلى الاهتمام بالمعلومات، والتأليف، والتفكير في ما يؤثر في المجتمعات الإنسانية سلباً وإيجاباً. وأكبر دليل على ذلك انشغالي سنوات عدة في البحث عن المسببات الكامنة للسعادة في أعماق الإنسان، وهذا ما قادني إلى ابتكار نظرية جديدة قدمتها في كتابي الأخير، مستفيداً بالطبع من خلفيتي العلمية والهندسة ولا سيما في مجال الكهرباء والطاقة: «فن الاستمتاع: كيف تكون سعيداً وناجحاً وقوياً» والذي لقي إقبالاً كبيراً من القارئ العربي، وتمت ترجمته لبعض اللغات الحية. وأنت تتخطى ال 40 في رحلتك نحو ال50... أي الخيبات تحدِّث نفسك ألا تعيشها مرة أخرى؟ - أستطيع القول، بأن ليستْ هناك خيبات شخصية بمعناها السائد، إنما بوسعي الآن الوقوف على مرتفع الحياة وإرسال نظرة متفحصة إلى ما مضى من سنين العمر، وقطعاً هناك أمور كثيرة كان بودي أن أسهم في تحقيقها، ولكن كان الطموح والحماسة يتجاوزان المسموح به على أرض الواقع، ويقفزان فوق القدرة على القرار آنذاك. كنت أطمح لأن تكون المملكة رائدة في بناء وتشغيل مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية وتحلية المياه على شواطئ البحر الأحمر والخليج العربي. وأن يكون لدينا جيل من مئات أو ألوف من المهندسين والفيزيائيين والفنيين في مجال الطاقة النووية وتطبيقاتها المختلفة في إنتاج الكهرباء وتحلية المياه والأبحاث وإنتاج النظائر المشعة للاستعمالات الطبية والزراعية وإنتاج النفط والتطبيقات الصناعية الأخرى. كان بودي أن تكون النهضة التعليمية المباركة التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الآن، قد بدأت منذ 30 عاماً، ولم يكن ينقصنا المال ولا الإمكانات البشرية والطبيعية. لقد قامت إسرائيل وسنغافورة وتايوان بعد تأسيس كيان المملكة وتوحيدها بسنوات عدة، وهي تتمتع الآن بإمكانات علمية وصناعية وتقنية وعسكرية متقدمة. كنت أتمنى ألا نجامل في سبيل المصلحة الوطنية وبناء القوة والتقنية أية قوى عالمية. وأن تكون مصالحنا مقدمة على كسب رضا ومباركة الآخرين. وأن يكون هناك اهتمام أكبر بالشباب من الجنسين وبث العلم والثقافة والانفتاح، لكي لا نكون عرضة للتطرف والانكفاء وغياب التسامح وتضييع الطاقات في جدليات وخلافات تُذهب قوة المجتمع وتؤدي إلى انتشار بؤر التوتر والخلاف غير المبرر، وكان بودي أن نقضي على الازدواجية في مجتمعنا وأن نعيش أسوياء. القنبلة النووية متى حدّثت نفسك بالنووية؟ وهل ما زال يسكنك حلم صناعة القنبلة النووية؟ - كنت منذ طفولتي متأثراً ومعجباً ب «ما خفّ وزنه وغلى ثمنه» ووجدت أن الوقود النووي هو صديق للبيئة، حيث عدم انبعاث الغازات الملوثة عند احتراقه، وكذلك توفير النفط ومشتقاته واستعماله بالصورة الأمثل التي تعود على الاقتصاد بمردود أكبر وتقلل انبعاث الغازات الضارة بالبيئة والمسببة للاحتباس الحراري. علماً بأن النفط والغاز المستخرجين من الأرض هو كمية محدودة لا تستطيع الوفاء بحاجات الطاقة المتنامية في العالم المتقدم لفترات طويلة. لم تكن صناعة القنبلة النووية يوماً ما حلماً يراودني، فنحن لا نحتاج إلى التدمير والخراب، بل نحن في حاجة إلى البناء والتنمية، نحن في حاجة إلى العلم والثقافة والتقنية، ربما نحتاج إلى بناء قنبلة تقضي على الأمية والجهل والازدواجية والتطرف والإسراف. وبناء القنبلة النووية لا بد من أن يكون جزءاً من خطة استراتيجية ووجود أعداء محتملين للأمة والوطن. ومشكلتنا في العالم العربي والإسلامي ليست من خارجنا بل هي من داخلنا، نتيجة لعدم وجود المؤسسات، وعدم وضوح الأهداف وهدر الطاقات، وضحالة البرامج اللازمة لتنمية وبناء القدرات العلمية للأعداد المتزايدة من الشباب والمواطنين بصورة عامة. مشكلتنا في العالم العربي هي في الطغيان والاستبداد، والفردية في صناعة القرار، ووجود طبقة من المرتزقة والمنتفعين على حساب الوطن والمواطن، من آثروا مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن، والاستفادة من المراكز في الإثراء. أليس مفارقة أن صناعتك للموت تجعل حياتك في أمان أكثر؟ - هذا سؤال مبني على تراكمات ثقافية غير دقيقة، وعدم إدراك كامل للأدوار التنموية والاقتصادية للطاقة النووية وتطبيقاتها المختلفة. هذا المفهوم قد لا نجده في الغرب، إذ إن الصحافة ووسائل الإعلام والمؤسسات التربوية تغرس المفاهيم العلمية الصحيحة في عقول مواطنيها، وتحفزهم على التفكير الناقد والمميز، بين ما هو خطير ومدمر وبين ما هو خطير ونافع. وقد جاء هذا اللبس من الإيحاءات السالبة التي تركها أول تطبيقين للسلاح النووي، عندما هاجمت الولاياتالمتحدة الأميركية مدينتين يابانيتين آهلتين بالسكان (هما هيروشيما وناجازاكي في شهر آب (أغسطس) 1945، من دون إنذار مسبق، ومن دون مراعاة لحياة المدنيين الذين ليس لهم ناقة ولا جمل بتطورات الحرب العالمية الثانية التي كانت تدور في منطقة الباسفيك. أما إذا كان السؤال عاماً يرمي إلى أن الدول التي تملك أسلحة استراتيجية مثل الرؤوس النووية، تستطيع ضمان سلامة شعوبها وأراضيها نتيجةً لامتلاكها لأسلحة رادعة، فهذا السؤال صحيح. وهذا الذي يقود عشرات من الدول الآن لامتلاك تقنية السلاح النووي، ولا سيما بعد غزو الولاياتالمتحدة الأميركية لدولتين مستقلتين هما العراق وأفغانستان، من دون وجود أسباب وجيهة لهذا الغزو، عدا الرغبة في تحقيق أجندة صهيونية، وخرافات وأساطير صليبية، وطموح نفطي، وإرضاء للعسكريين ومصانع الأسلحة. ولو كان العراق- مثلاً- يمتلك سلاحاً نووياً، لما تم الاعتداء عليه، وتحطيم بنيته الأساسية، وتخريب تركيبته الديموغرافية، وإحلال الفوضى وأعمال الإرهاب فيه، وتقسيمه إلى أقاليم ضعيفة، متباينة الغايات والولاءات. هل صحيح أن هناك مؤامرة على الدول العربية لتدخل النادي النووي؟ - المؤسسات السياسية في غالبية الدول العربية لا تحتاج إلى مؤامرة لكي تبتعد عن أسباب القوة الذاتية، وهي قطعاً لا تفكر في الدخول إلى النادي النووي، وتشعر بأن هذا النادي هو فقط للاعبين الكبار، فغالبيتها تبني من القوة ما يكفي لتمتع النخبة الحاكمة من الاستمرار في السيطرة على مقدرات البلاد لأطول فترة ممكنة، والهدف النموذجي هو الحكم والسيطرة إلى الأبد- إن أمكن ذلك. ونتيجة لانعدام العدل وضعف البُنى التحتية وعدم الاهتمام بكرامة الإنسان وتعليمة وصحته ومستوى حياته، فإن بعض الحكام العرب، يخشون من الجبهة الداخلية أكثر من خشيتهم من العدو الخارجي. فتكون الاستعدادات نتيجة لذلك الهاجس هي لقمع الانتفاضات إن حدثت، ومتابعة السيطرة التامة على الداخل وكبت الأصوات ومصادرة الحريات. أما الدول العربية الأخرى والتي قد لا تكون قامعة أو بوليسية، فإنها وقعت في وهم خطير وهو إرضاء الدول الكبرى ومجاملتها، وعدم القيام بأية أعمال يظن بأنها غير مقبولة لديها أو من بعض المؤسسات الفاعلة فيها. ولذا فإن المستقبل الاستراتيجي للدول العربية خلال العقود المقبلة سيكون غامضاً، وستكون خاضعة للابتزاز العسكري أو محاولات العبث بأمنها من قوى إقليمية أو عالمية، ما لم تغير هذه الدول أو المؤسسات الحاكمة فيها أسلوبها في الحفاظ على مكاسبها، واعتبار أن الحفاظ على سلامة الوطن ومكاسبه ووحدة أراضيه هو الضامن الأكبر لحفاظها على مكاسبها الخاصة وعند ضياع الوطن أو استقلاله، فلن تكون هناك ضمانات لأحد صغيراً أم كبيراً، غنياً أو فقيراً، حاكماً أو محكوماً. وكالة الطاقة الذرية... ما شهادتك عليها؟ - وكالة الطاقة الذرية الدولية IAEA شأنها كغيرها من المؤسسات الدولية، هي خاضعة للدول الكبرى، ومنفذة لأجندتها، وحريصة على توفير مصالحها في السيطرة على الدول الأخرى، باستعمال ما يسمى بالنظام الدولي. وبذلك فإن الوكالة تتحرك لضمان مصالح الدول المهيمنة، وإعاقة الدول النامية عن أن تصبح دول متطورة، تنافس الدول المتقدمة في سيطرتها على الاقتصاد أو الابتعاد عن حمايتها العسكرية، أو الاستغناء عن مظلتها الاستراتيجية. وبعد غزو الولاياتالمتحدة لأفغانستان والعراق، من دون أن تحصل على مباركة دولية من المؤسسة العالمية الكبرى (الأممالمتحدة) فإن نظام الغابة قد أصبح أكثر انكشافاً ووضوحاً للجميع، وبدأت هذه المنظمات الدولية تفقد صدقيتها واحدة تلو الأخرى، واتضح نزوعها إلى الكيل بمكيالين. ووكالة الطاقة الذرية، تتحرك بسرعة لوجود معلومات من إسرائيل تفيد بأن سورية تحاول بناء منشآت نووية، وتفتش العراق قبل غزوها من أميركا، لوجود شكوك حول امتلاك صدام لأسلحة نووية أو وجود نية لدية لبنائها، وتذهب لتفتيش إيران، وعقد الاجتماعات المتعاقبة معها لثنيها عن تخصيب اليورانيوم، أو بناء وحدات لإنتاج الماء الثقيل، أو حصولها على تعاون نووي تقني مع الاتحاد السوفياتي، لإكمال بناء مفاعل بوشهر على الخليج، ومحاولاتها للحصول على وقود نووي له. بينما هذه الوكالة لا تفعل شيئاً، ولا تحرك ساكناً على المفاعلات النووية الإسرائيلية في النقب، وعلى الرؤوس النووية التي تكدسها إسرائيل، وعلى تفجير قنبلة إسرائيل النووية الأولى في دولة جنوب أفريقيا. فبماذا تريدني إذاً أن أشهد أو أقول عن هذه الوكالة الانتقائية. هناك رسائل ماجستير ودكتوراه محلية في الهندسة النووية... هل وجدت طريقاً للتطبيق أم أنها مغلق عليها بقرار حكومي؟ - لا يوجد في غالبية دول العالم العربي اهتمام بالأبحاث العلمية، أو بأطروحات وأبحاث الماجستير والدكتوراه، وهي بذلك تغلف جيداً بعد طباعتها وقبولها، وتوضع على أرفف أقسام الدراسات العليا في الجامعات. أما تطبيقها فإن هذا أمر محال، إذ كيف يتم تطبيق أبحاث ودراسات لا تتوافر لها موازنات، ولا مختبرات، ولا حماية. والدراسات أو الأطروحات التي قد تنال اهتمام المسؤولين في العالم العربي هي الأطروحات التي تعني بالأمن الداخلي، والاتصالات والشبكات. وبعد أحداث 11 سبتمبر، أصبحت الدول العربية تبذل جهوداً كبيرة في مراقبة تحويل الأموال إلى الجمعيات الخيرية، ومحاولة منع ومعاقبة المحوِّلين أفراداً أو جمعيات، والإبلاغ عنها للجهات المختصة في الولاياتالمتحدة الأميركية. لا يمكن توظيف الأعمال العلمية والأبحاث والدراسات توظيفاً جاداً ما لم يتوافر الإيمان التام لدى النخب السياسية العربية، بأن هذه الأبحاث العلمية وتطبيقاتها في المجالات التقنية، هي جزء لا يتجزأ من أمن وقوة تلك الدول ونجاحها في الاعتماد على قدراتها الذاتية، في الوصول إلى المستوى الحضاري والاقتصادي والتقني اللائق بها، وحصولها على مكانتها الاستراتيجية بين أمم العالم، التي تعتمد العلم والتقنية والتخطيط الاستراتيجي عملاً أصيلاً في خططها للتقدم والبقاء، والاستمرار في معترك التنافس الدولي المحموم بين الأمم المختلفة، إذ تبرز دول وكيانات وتنحط أو تختفي أخرى، نتيجة لذلك السباق والصراع. الاستراتيجية التقنية الاستراتيجية العلمية والتقنية في المملكة... هل استشرفت المستقبل مبكراً؟ - إذا كان تأسيس المركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا آنذاك، ينم عن استشراف علمي وتقني للمستقبل فالجواب نعم. إلا أن هذا المركز وبحسب علمي لم تكن له أدوار واضحة في أي تقدم علمي أو تقني للمملكة خلال العقود الثلاثة الماضية، ولو كان ذلك لأمكن تلمس هذا الدور في تمكن المملكة من اللحاق بالأمم التي أحرزت طفرات علمية وتقنية واسع. وأصبح يشار إليها بالبنان، مثل بعض دول نمور آسيا مثل كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، وأخيراً ماليزيا. وربما سبب هذا الإخفاق هو عدم تخصيص موازنات مناسبة لهذا المركز، وعدم توافر الكوادر البحثية الكافية فيه، ولربما لعدم وجود نظام واضح ينصُّ على دوره ومسؤوليته على المستوى الوطني. وقد تحوّل مسمى المركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا، إلى اسم: «مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية»، والذي قام خادم الحرمين الشريفين بزيارته خلال هذا العام، وهذا يشير - من وجهة نظري- إلى دعم واهتمام القيادة بتفعيل دور هذا الصرح العلمي التقني، ليسهم بفاعلية في دفع خطى التقنية في هذه البلاد إلى مستويات محسوسة. ولكن التقدم العلمي والتقني في أي بلد في العالم يحتاج إلى خطة واضحة وإطار عمل وتنسيق بين المراكز الوطنية، والجامعات، والمصانع، ورأس المال، لكي يمكن من خلاله تحويل الأبحاث والدراسات إلى منتجات اقتصادية واستراتيجية خاصة بتلك الدولة. وهنا نحتاج إلى تفعيل ما يسمى «رأس المال الجريء» والذي يشترك فيه المستثمر والعالم في إخراج العمل العلمي إلى الوجود على شكل جهاز أو نظام أو سلعة لها قيمة مضافة مضاعفة. وما لم نجد أن الدولة ترصد أكثر من 3 في المئة من موازنتها السنوية على البحث العلمي والتقني، فإن تحقيق استشراف حقيقي للمستقبل، سيصبح ضرباً من الخيال المحال. من يتأمل في دروبك سيجد أنك تهرب من تخصصك الرئيسي إلى تفاعلات أخرى... لماذا؟ - هذه قراءة سريعة ينقصها التأمل والتدقيق. وهي مبنية على افتراض أن العالم أو الأستاذ الجامعي، لا ينبغي أن يكون له نشاطات خارج مجال تخصصه، وهذا يعني عدم الحضور الثقافي والاجتماعي وعدم الاكتراث أو التفاعل مع قضايا الوطن والأمة. وعلى رغم أني تقاعدت عن العمل في جامعة الملك سعود بعد أن قضيت 20 سنة في العمل الأكاديمي، إلا أن صلتي بالبحث العلمي التخصصي ما زالت مستمرة، وما زلت ولله الحمد عضواً فاعلاً في المؤتمرات العلمية في مجالات المفاعلات النووية، وما زلت أنتج سنوياً بحثين (ورقتين) أو أكثر في مجال تخصصي الدقيق. وقد اشتركت مع مجموعة من العلماء المميزين في مجال المفاعلات النووية من كل من البرازيل وتركيا في تطوير مفاعل نووي صغير، يتمتع بصفات مهمة للغاية، من حيث الأمان، وسهولة التشغيل، وقلة تكاليف البناء، وعدم الاحتياج إلى أعداد كبيرة من الخبراء والفنيين في التشغيل، وينتج هذا المفاعل من الطاقة 80 ميغاوات كهرباء. هذا المفاعل أجازته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وسنقوم قريباً ببنائه لأية دولة ترغب في تحمل تكاليف بناء المفاعل الأول من نوعه في عالم المفاعلات المخصصة لإنتاج الكهرباء وتحليه المياه. وقد أصبحت عضواً في بعض اللجان العلمية العالمية المشرفة على إقامة بعض المؤتمرات في التخصصات النووية وآخرها كان في مدينة إسطنبول في تركيا، ومدينة باندونغ في إندونيسيا. ومن المعلوم أني تركت تدريس الهندسة النووية في الجامعة، لإحساسي بعدم جدوى الاستمرار في تخريج دفعات من الطلبة الجامعيين وطلبة الدراسات العليا، طالما ليست هناك نية وتوجه لبناء مفاعلات نووية كبرى في المملكة لإنتاج الكهرباء وتحلية المياه، كما كان مأمولاً آنذاك. أما التأليف والاشتراك في بعض البرامج الحوارية في الفضائيات، فإن المتابع لها يحس بأنها تلامس هماً من الهموم التي يحملها مواطن عربي مسلم، يشعر بمسؤوليته الوطنية والقومية والدينية. هل العالم عندنا أكثر إحباطاً من بقية العلماء الآخرين؟ - نعم، فالعالم في دول العالم الثالث، ولا سيما في الدول العربية، يعيش حالات من الإحباط قد لا يعيشها الكثير، ذلك أن غالبية تلك الدول تسير في اتجاه مغاير للمنطق والتطور، وهي تعاني من انحدارات متوالية، على المستويات التعليمية والثقافية والاقتصادية، وهي بذلك تزداد نكوصاً عن طريق العلم والتقدم والتنمية المستدامة. فالعالم يشعر بعمق الأزمة ويعرف الداء ولا يخفى عليه مصادر الدواء، ويجد أن كثيراً ممن يتصدى لرسم الخطط والبرامج أناس قد لا يتمتعون بالحس العلمي المعرفي، وقد يعمل بعضهم لذاته وبصورة أنانية مفرطة من دون إحساس بالمسؤولية الوطنية وأمانة القرار والتنفيذ. ومن النظرة الأولى إلى الموازنات المرصودة للأبحاث والتطوير R&D في خطط الدول، تستطيع التنبؤ بالمآلات التنموية السالبة لتلك الدول، واحتمالات تنامي الأزمات وإهمال بناء الإنسان، وتراكم الثروة بأيدي قلة غير فاعلة أو نافعة للوطن، وهروب الأموال إلى خارج البلاد، وإبعاد المخلصين والغيورين عن أماكن القرار، وهو ما يؤدي بهم إلى الانزواء أو الإحباط أو الهجرة إلى خارج البلاد، أو التأقلم مع مجموعات النفاق والمصالح الخاصة.