لم يتوقف الجدل في العراق منذ إطاحة النظام السابق على حرية الإعلام، وظل كثيرون يخلطون بين مفاهيم متضاربة لهذه الحرية معتبرين أن إعلاماً تموله الدولة يعني بالضرورة أن يكون ناطقاً باسم الحكومة، كي لا نقول بوقاً لها. هكذا تبقى شبكة الإعلام العراقية، المرئية والمسموعة والمقروءة، التي تمولها الدولة من دون قانون حتى الآن، كما هي الحال بالنسبة الى قانون ينظم حرية الصحافة ويحمي حقوق الصحافيين. والأرجح أن مجلس النواب الحالي لن يستطيع إقرار أي من مشاريع القوانين المتعلقة بالإعلام إذ أن ولايته على وشك النفاذ بحلول موعد الانتخابات العامة الجديدة في السابع من آذار (مارس) المقبل. هذا الموضوع يحتل أهمية مضافة في وقت يناقش مجلس النواب مشروع قانون مثير للجدل قدمه مجلس الرئاسة (الجمهورية) باسم «قانون السلوك الانتخابي» يعكس، بين أمور أخرى، خوفاً من تسخير شبكة الإعلام للدعاية الانتخابية. وتنص فقرة في مشروع القانون على «منع شبكة الإعلام العراقية المرئية والمكتوبة ووسائل الدولة من الترويج لأي مسؤول مرشح» (اقرأ «رئيس الوزراء» الذي يخوض الانتخابات المقبلة بقائمته الخاصة). هذه المسألة، أو المشكلة، طرحت نفسها مجدداً بمناسبة تصريح الأسبوع الماضي لرئيس الوزراء نوري المالكي تضمن دعوة الى عودة الإعلام الرسمي ردود فعل محدودة لكنها عموماً عبرت عن قلق من هذه الدعوة وتخوف من انها تمهيد لإحياء وزارة للإعلام، الأمر الذي حدا بالمستشار الإعلامي لرئيس الوزراء علي الموسوي أن يوضح بأن الدعوة هي مجرد «رؤية» و «لا تعني بالضرورة العمل على تنفيذها في الوقت الحالي». المالكي لاحظ أن «الحكومة لا تملك فضائية أو صحيفة أو إذاعة إلا بقدر ما يتفضل به مسؤول هذه الوسائل»، وهذه مشكلة «صنعها» الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر «ويجب التخلص منها بإعادة الإعلام الرسمي ليتحمل مسؤوليته الى جانب الإعلام الحر المستقل»، على حد تعبيره. الموسوي زاد بأن «من الممكن أن يكون هناك إعلام للحكومة والدولة، والى جانبه إعلام حر ومستقل، حيث يقوم إعلام الحكومة بتغطية النشاطات الرسمية فيما تكون مهمة الإعلام المستقل مراقبة السلطات وأداء عمله، وهذا الموضوع يحتاج الى تشريع جديد يتيح إنشاء إعلام حكومي متماسك». وختم بالقول: «إننا نحتاج الى إعلام للحكومة كي يقوم بتوجيه المسؤولين بالطريقة التي تخدم مصالح الشعب». في ظل هذا الجدل المتواصل لا أحد يكاد يتذكر أن المعنى الحقيقي للإعلام في النظام الديموقراطي هو تمكين المواطن من الحصول على المعلومات كما هي من دون تدخل أو انحياز. وفي هذا الإطار تشكل شبكة الإعلام العراقية أنموذجاً فريداً من نوعه. فهي من الناحية القانونية قائمة على أساس القرار 66 (الخاص بتأسيس الهيئة العراقية لخدمات البث والإرسال) الذي أصدره بريمر وما زال نافذاً حتى يقرر مجلس النواب إلغاءه أو قبوله أو تعديله أو إصدار قانون بديل منه. لكنها عملياً أصبحت، منذ انتقال السيادة الى العراق رسمياً في حزيران (يونيو) 2004، بمثابة الناطق باسم الحكومة، ضاربة عرض الحائط جوهر القرار 66 وهو تمكين المواطن الحصول على المعلومات في مقابل المال العام المستخدم لتمويل الشبكة. نحتاج الى خلفية لفهم المشكلة. حل وزارة الإعلام كان بين القرارات التي أصدرها بريمر خلال حكمه الذي استمر سنة واحدة. للتوضيح فان قراراته، وعددها 100 قرار، كان لها حكم القانون وتبقى نافذة حتى يقرر مجلس النواب المنتخب عكس ذلك. المجلس صادق على عدد من قرارات بريمر وحولها قوانين، فيما ألغى غيرها وما زال بعضها نافذاً منها القرار 66 مثلاً. لكن الحكومات المتعاقبة بعد بريمر كلها تجاهلت هذا القرار/القانون وأعطت لنفسها الحق في اعتبار الشبكة، خصوصاً التلفزيون (العراقية) جهازاً دعائياً تابعاً لها وعينت من تشاء لإدارتها متجاهلة تماماً الإجراءات والضوابط الخاصة بالتعيينات كما حددها قانونها. زيادة في التوضيح يُشار الى أن القرار 66 صاغه بدرجة رئيسية فريق من خبراء بريطانيين في الإعلام تعاقدت معهم وزارة الخارجية البريطانية لهذا الغرض. وهذا يعكس حقيقة أن الفريق اتخذ هيئة البث البريطانية المعروفة بال «بي بي سي» أنموذجاً لشبكة الإعلام العراقية، إن لجهة المفهوم والهدف أو لجهة التمويل. فكما الحال بالنسبة للهيئة البريطانية نص القرار 66 على أن يتم تمويل الشبكة العراقية من المال العام من دون إعطاء الحق للحكومة التدخل في استقلاليتها. لكن ما يحدث هو أن الحكومات العراقية منذ 2004 تلتزم تمويل الشبكة لكنها لا تلتزم عدم التدخل في شؤونها، بل ما يحدث هو العكس تماماً. هنا ينبغي الأخذ في الاعتبار أن القرار 66 صيغ وأقر بمعزل عن إرادة العراق الذي كان يخضع لسلطة الاحتلال بموجب قرارات مجلس الأمن. بعبارة أخرى لا بد من مراجعة القرار وتعريقه وتقنينه بعد أن يصادق عليه مجلس النواب. لكن هنا المشكلة. ففي ظل لعبة التوازنات والتوافقات السياسية فان مجلس النواب لم يستطع على مدى السنوات الأربع الماضية الاتفاق على مناقشة الموضوع. هكذا يبقى قرار بريمر الخاص بشبكة الإعلام العراقية قانوناً نافذاً من الناحية الدستورية فيما يتفرج مجلس النواب على الحكومات المتعاقبة وهي تنتهكه كما تشاء. قصارى الكلام أن الجدل المتواصل حول مفهوم الإعلام وطبيعته وهدفه يعكس ضمناً الحنين الى إعلام يخضع بصورة أو أخرى الى سيطرة الدولة/الحكومة أو أي «تنظيم» آخر يمكن بواسطته «توجيه» الإعلام كنقابة الصحافيين مثلاً يسهل على الحكومة ترويضها عبر تقديم امتيازات لها ولأعضائها. الدليل؟ مشروع قانون حماية حرية الصحافة يعكس هذه العقلية. فهو يعامل الصحافيين كأنهم خرفان لا بد أن يرعاهم تنظيم ما. فالصحافي، بموجب مشروع هذا القانون، لا يمكن اعتباره صحافياً إلا إذا كان منتمياً الى نقابة الصحافيين!