انعقدت في مكتبة الإسكندرية في الأيام الأخيرة من 2009 (23-24 كانون الأول/ ديسمبر) ندوة «في الفكر النهضوي الإسلامي» ضمت حوالي 50 باحثاً معنياً بالتراث الإسلامي الحديث جاء معظمهم من الدول العربية الممتدة من المغرب الى عمان وبعضهم القليل من باكستان وتركيا وكوسوفا ونيجيريا، واعتذر البعض الذي كان يمكن بحضوره أن يغني الندوة أكثر (رضوان السيد من لبنان ومحمد حداد من تونس الخ). وفي كلمته الافتتاحية ركز مدير المكتبة د. إسماعيل سراج الدين على أهمية هذا المشروع كونه يعيد الاعتبار الى الإسلام كدين نهضة «في الوقت الذي تسود فيه الآن رؤى سلفية متخلفة تسمح بأن تكفّر غيرها»، وفي الوقت الذي يجري فيه الاستفتاء لمنع فيه المآذن في سويسرا انطلاقاً من الصورة المشوهة للإسلام. وبناء عليه فان هذا المشروع يهدف بحسب سراج الدين الى التعريف بالإسلام السمح من خلال «إصدار مختارات من التراث الإصلاحي النهضوي» موجهة لجهتين مختلفتين: الأجيال الجديدة من الشباب في العالم الإسلامي التي لم تعد تعرف ذلك التراث النهضوي، والمعنيين في الغرب سواء من أبناء الجاليات المسلمة أو من الأوروبيين المهتمين بالإسلام وذلك بعد ترجمة هذه المختارات الى اللغتين الإنكليزية والفرنسية. ولكي لا يساء فهم هذا المشروع وجّه سراج الدين رسالة واضحة بأن هذا المشروع لا يهدف «الى رفض الجديد الوارد علينا» لأنه يؤمن ب «تجدد الأفكار بين الموروث والوافد» بل ل «يسهم في خروج الأمة من حالة التراجع التي نحن فيها حتى يعلم الجميع أن التاريخ لم يصل بعد الى نهايته». وكانت مكتبة الإسكندرية قد أطلقت منذ أكثر من سنة فكرة كبيرة تتمثل في اختيار حوالى 200 كتاب من أمهات كتب النهضة الإسلامية التي صدرت خلال القرنين 13-14 الهجريين أو 19-20 الميلاديين، والتي أثارت حراكاً فكرياً وسياسياً وثقافياً تمثل في الترحيب بها وإعادة إصدارها أو في منعها وحرقها أو في الرد عليها بكتب أو مقالات على صفحات الجرائد والمجلات. ولمثل هذا المشروع الكبير كان لا بد من فريق عمل يجتمع ويضع بعض المعايير الأساسية ويختار في ضوئها الدفعة الأولى من الكتب المختارة، ثم يكلف من يراه مناسباً بعرض الكتاب المختار وما أثاره من اشكاليات وما قدمه من جديد في دراسة مطولة تسبق الكتاب الأصلي في الطبعة الجديدة التي يفترض أن تصدر في مطلع 2010. ومن هنا كان المشاركون في هذه الندوة يمثلون ثلاث مجموعات تريد أن تتفاعل مع بعضها وتغني المشروع أكثر حتى يتكامل في صورته النهائية: فريق العمل الذي كان يقوده صلاح الدين الجوهري ومحمد كمال الدين إمام وإبراهيم البيومي غانم، والفريق الأول من الباحثين الذي كلّف بإنجاز الدفعة الأولى من الكتب المختارة، وجمهور الباحثين الذي جاء للاستماع والنقاش وإبداء الملاحظات على المشروع برمته. وبناء على ذلك فقد كانت فعالية الندوة تدور على مستويين اثنين: ثلاث جلسات خصصت للاستماع الى عروض الباحثين الذين أنجزوا ما كلفوا به؛ حيث عرضت في كل جلسة أربعة عروض، وجلسة للجنة الاستشارية أعقبت الجلسات وحددت لبلورة المعايير في شكلها النهائي واختيار الدفعة الثانية من الكتب (35 كتاباً). وفي ما يتعلق بالدفعة الأولى من الكتب فقد لوحظ انها اشتملت على كتّاب من مختلف البلدان ومن مختلف المجالات والاتجاهات: «مناهج الألباب المصرية» لرفاعة الطهطاوي، «أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك» لخير الدين التونسي، و «كشف المخبا عن فنون أوروبا» لأحمد فارس الشدياق و «الإسلام دين الفطرة والحرية» لعبدالعزيز جاويش و «طبائع الاستبداد» لعبدالرحمن الكواكبي و «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق و «الحرية الدينية في الإسلام» لعبدالمتعال الصعيدي و «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» لمصطفى عبدالرازق و «المرأة والعمل» لنبوية موسى، «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» لطاهر الحداد و «مقاصد الشريعة الإسلامية» لطاهر بن عاشور و «دفاع عن الشريعة» لعلال الفاسي. ويلاحظ في هذه الدفعة تباين الموضوعات التي تتراوح بين الكشف عن تقدم الآخر (الأوروبي) واستجلاء أسباب تقدمه وبين نقد الاستبداد القائم باعتباره معوقاً للتقدم وحل الإشكال بين الخلافة والشريعة وتأييد حقوق المرأة في التعليم وحتى الدفاع عن الشريعة في وجه الموجة الجديدة من التشريعات الوضعية. ومن ناحية أخرى يلاحظ التباين الزمني بالنسبة للمؤلفين والمؤلفات، حيث صدر «مناهج الألباب المصرية» في 1872 وتوفي مؤلفه في 1873، بينما صدر كتاب «دفاع عن الشريعة» في 1966 وتوفي مؤلفه في السنة ذاتها. وفي الجلسات التي خصصت لمناقشة الأعمال المقدمة كان نظام العمل يترك لكل باحث 10 دقائق يستعرض فيها ما أنجزه بالتركيز على أهم الأفكار الجديدة التي قدمها الكتاب والصدى الذي تركه بين مؤيد ومتحفظ، وعلى خبرته في العمل بذلك وذلك في انتظار الملاحظات من جمهور الباحثين لأنه قيل إن ما هو مقدم «مسودة» ستخضع لتعديلات نهائية قبل أن يدفع بالكتاب الى المطبعة ليصدر مع غيره في معرض الكتاب بالقاهرة في نهاية هذا الشهر. وفي الحقيقة لقد أحسن غالبية المكلفين بعرض ما لديهم، ولكن كان هناك بعض الملاحظات حول حجم العمل أو المدخل بالنسبة للمؤلف الأصلي لأن العمل أو المدخل كان يتراوح من عشرين الى سبعين صفحة. وبالإضافة الى ذلك كان هناك ملاحظات حول مدى تمثّل أو تمثيل الرأي الآخر المعارض لمؤلف الكتاب وهل يمكن أن يصل ذلك الى نشر الردود أو الكتب المعارضة له على شكل ملحق. ومع ذلك يمكن القول أن الجلسات التي أدارها بنجاح د. إمام ود. غانم سمحت بتفاعل جيد بين فريق العمل والفريق المكلف بالدفعة الأولى للكتاب وجمهور الباحثين، خصوصاً أن بعض الملاحظات كان يتعلق بالمعايير المعتمدة. ومن ذلك يسجل لفريق العمل انه نجح في اختيار معظم أفراد الفريق الأول المكلف بإنجاز الكتب ال 12 الأولى، ولكن هناك بعض الاستثناءات القليلة حيث كان يمكن لكتاب الكواكبي أو الفاسي أن يقدمه من اشتغل عليهما أكثر في العقود الأخيرة. ونظراً لأن هذه الكتب ال 12 لا تمثل سوى نقطة البداية فقد تركزت مداولات اللجنة الاستشارية على المعايير المعتمدة وعلى حصيلة الملاحظات التي يمكن أن تغني هذه المعايير وتفيد في اختيار ال 188 كتاباً باقياً. وهكذا يلاحظ أن المعايير تؤكد شمولية المشروع للعالم الإسلامي؛ حيث يفترض أن تشتمل الدفعات القادمة على كتب لمفكرين من الهند والباكستان والمجال العثماني السابق (تركيا والبوسنة الخ) وجنوب الصحراء الخ. من ناحية أخرى فقد أصبحت المعايير تسمح الآن بإصدار مختارات من كتابات لشخصية نهضوية وليس بالضرورة إصدار كتب فقط، وحتى مختارات لتلاميذ صاحب مشروع نهضوي الخ. كما تم التأكيد على تنويع الموضوعات حتى تشمل مختلف مجالات الفكر والفقه والفنون بشرط أن تجمع بين الأصالة والإضافة. وفيما يتعلق بالسقف الزمني فقد اتفق أن يبقى مفتوحاً حتى نهاية القرن العشرين بشرط ألا يكون يصدر الكتاب في حياة مؤلفه. ولا شك في أن هذه المعايير وغيرها ستساعد على توسيع وتنويع عشرات الكتب المقترحة للدفعات اللاحقة التي سيشكل صدورها مشروعاً كبيراً جديراً بأن يحمل اسم مكتبة الإسكندرية. فمع هذا المشروع وغيره تثبت المكتبة بإدارة إسماعيل سراج الدين أن المكتبة ليست لحفظ الكتب فقط بل لإنتاج المعرفة للأجيال القادمة، وفي هذا السياق يأتي هذا المشروع لإعادة إصدار تراث النهضة مع كل أسئلتها التي لم تجد جواباً أو إنجازاً لما كانت تحلم به لعلها تفلح في هذه الطبعة الجديدة أكثر من الطبعات السابقة.