لا أحد ينكر على الإطلاق ظاهرة «الإحيائية الصوفية» التي برزت بقوة على الساحة العالمية منذ العقد الأخير من القرن العشرين حتى الآن. مع الاعتراف بندرة نصيب العالم العربي الإسلامي منها وبروزها في شكل أكبر على مستوى كل من أوروبا والولايات المتحد الأميركية ووسط وجنوب آسيا بصفة خاصة. ومما يثير الدهشة في النظر الى هذه الظاهرة، هو تعدد تجلياتها في الواقع: فهناك الشكل التقليدي للطرق الصوفية بتنظيماتها وتفرعاتها المعروفة، وهناك حركات لا تتبع الشكل التنظيمي بل ولا تعد نفسها أحياناً صوفية على رغم تجذر عامل التصوف فيها، فعلى سبيل المثال ثمة أشخاص يتبعون مجموعة قراءات لكتابات جلال الدين الرومي، أو يتبعون الحركة الاصطفائية للعصر الحديث المتأثرة بالفكر الصوفي أو الممارسات الصوفية من دون أن يكون لهم أي انتماء رسمي للصوفية التقليدية ذات الجذور القوية في العقيدة والممارسات الإسلامية. ومع ذلك، ينظر البعض للإحيائية الصوفية المعاصرة على أنها «إسلام مثالي». فمن ناحية، ثمة من يؤكد انه من الاستحالة بمكان أن نؤمن بالإسلام من دون أن نضع في الاعتبار الحقائق الأصلية التي يعتنقها الصوفيون بطريقة منتظمة والتي يأتي على رأسها قيمة «الإحسان» الذي يُفهم على انه الوعي الداخلي، أو الوعي الذي لا تقف الأنا في طريقه، أو الخيالات التافهة، أو الانشغالات بالماضي، أو الانشغالات الدنيوية بصفة عامة. وعلى رغم الإقرار بأن معظم المتصوفة يظلون أوفياء للتعليمات الأساسية والتقليدية للإسلام، إلا أن ذلك لم يمنع البعض من ملاحظة أن التطورات التي حملتها حركة العولمة قد أفضت، في ما أفضت، الى خلق وفرض تحديات جديدة بالنسبة لهم، خصوصاً تلك التي تتعلق بقضايا الحوار. ففي تركيا، على وجه الخصوص، حاولت الطرق الصوفية أن تتلاءم مع مستجدات العلمنة والعولمة على رغم انها منعت من ممارسة أنشطتها الاعتيادية منذ عام 1924. وعلى رأس هذه الطرق «الطريقة النقشبندية» ذات الشعبية الواسعة في السياسة والثقافة التركية. والى جانبها أسست طرق ومجموعات صوفية أخرى صحفاً ومجلات، فضلاً عن بعض المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. ناهيك ببعض الحركات الدينية ذات الإسناد الصوفي والتوجه المدني والتي لا يمكن عدّها من الناحية الفنية من الطرق الصوفية، على رغم ما تنطوي عليه من عناصر صوفية في حياة أتباعها الروحية. وعلى رأس هذه الحركات يندرج أتباع فتح الله كوان الذي يركز بالدرجة الأولى على النظرة الوسطية للحياة المعاصرة باعتبارها «الحياة» قيمة بحد ذاتها. أيضاً تختلف حركة كولن في تنظيمها عن بقية الطرق الصوفية وذلك باتباعها أسلوب الروابط ذات النسيج غير المتشدد، وانتفاء التسلسل السلطوي الهرمي التراتبي، كما هو متعارف عليه في الطرق والتنظيمات الصوفية التقليدية، إلا انها تتشابه مع الطرق الصوفية في كونها لا تتجاهل البعد القلبي مع سعيها الى إحداث نوع من التوازن ما بين الإسلام والحداثة. أما في ما يتعلق بالصوفية وقضايا الحوار، فيمكن القول بأن المتصوفة يؤمنون بأن الصراع المحتدم بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والغرب، انما هو جزء من تاريخ بائس يرخي بظلاله القاتمة على أفئدة كثير من صاغة الفكر والسياسة لدى الاتجاهات التي تود إطالة ذيل هذا التحارب بين الحضارات والثقافات والديانات الى أمد لا يعرف نهايته إلا من يريده هنا وهناك مستمراً لكي يكون وسيلة للقهر والذل والاستلاب والاستعباد، ومُنطلقاً أيضاً لتوسيع الفجوات بين شعوب الأرض التواقة الى عالم يسوده الأمن والاستقرار. كما يؤمن المتصوفة أيضاً أنه قد كُتب على أمة الإسلام - للأسف الشديد - أن تخوض غمار هذا الصراع، فكانت أراضيها مسرحاً للأحداث التي مرت تحت مرأى ومسمع من الرأي العام العالمي، وما حدث في غزة أخيراً أبلغ دليل على أن سكانها كانوا مسرحاً لتجريب أنواع كثيرة من أسلحة الدمار الشامل للكون والإنسان في آن معاً. والواقع، ان وضعاً كهذا بمأسويته البالغة انما يدل - برأي المتصوفة - على فساد الضمائر والقلوب، وينذر بشؤم يؤلم شجاه كل فضيل، وهم يتساءلون عن موقعهم الحقيقي في هذا الوجود، ويبحثون لأنفسهم عن مُنطلق يستوحون منه موقفهم، ويؤسسون عليه نظرهم، ويستبصرون به طريقهم، ويتساءلون: هل سيمتد الصراع بين أتباع الأديان والحضارات والثقافات مع قيام الحجة عقلاً وديناً وواقعاً على وجوب تجاوزه؟ أم لا بد من مواصلة النداء للتحاور والتشارك والتفاعل بين الإنسان وأخيه الإنسان، بغض النظر عن اعتبارات اللون والعرق والجنس والمعتقدات؟ والى جانب ما سبق، يُثمن المتصوفة المبادرات العالمية التي قامت، من باب استشعار المسؤولية وخطر الأوضاع الحالية والمستقبلية، في الغرب والشرق على السواء، مُنادية بالوقوف يداً بيد في مواجهة هذا الزحف الأسود والإعصار العقيم الذي يهدد الوجود البشري في الصميم، مطالبة كذلك بتجاوز هذا الخطر الزاحف على كيان المجتمعات الإنسانية كبيرها وصغيرها فقيرها وغنيها في آن، إيماناً منها بأن الصراع الإنساني ليس من القضاء والقدر، ولا هو مفردة من مفردات الجبرية والقدرية، وانما هو محض صناعة بشرية خالصة أنتجتها أياد آثمة في عتمة الليل تنظر الى الكون نظرة مختزلة تجزيئية بحيث لا ترى فيه إلا حسابات الربح والخسارة، فلا تؤمن فيه إلا بما يدر عليها أوهامها، ويحقق لها نرجسيتها، ويجعلها مسيطرة على مقدرات غيرها باستمرار. وترتبط لفظة «الحضارة» في الوعي الصوفي المعاصر بالحضور والشهود ومن ثم بفهم المتصوفة لمعنى الاستخلاف الإلهي في الأرض. وبحسبهم، تتكون الحضارة من شقين: ماديّ ومعنوي، فالمادي هو ما نلمسه من عمران وصناعات وتقنيات وفنون وعلوم ومعارف وقوانين وأعراف... الخ. أما المعنوي، فيتمثل في النوازع العقدية، والدوافع القيمية التي كانت وراء صناعة هذه الحضارات. وتبعاً لذلك، فإن العقائد والأخلاق كلما اقتربت من المعايير العلمية والأخلاقية والمنطقية، كلما صارت أقرب من المدنية التي هي مرادف الحضارة عند البعض، أما إذا أنتجت التصحر والعقم المعرفي، فإنها تكون بداوة ورجعية وتخلفاً. أي أن الحضارة نتاج إنساني في الأساس يعبر عن وحدة المنشأ، وتكامل الأدوار، فهي متداخلة في ما بينها، ومتكاملة حلقاتها، لا يلغي اللاحق منها السابق، ولا يميت البعض منها الآخر، وإن تباعدت الأقطار، وتفاوتت الأزمان. كما ينطلق المتصوفة في إيمانهم بأهمية الحوار من المبادئ القرآنية والسلوكيات النبوية حيث أكد الإسلام ضرورة سلوك منهج الحوار، في مجموعة من القضايا المصيرية التي تتعلق بالعقيدة والشريعة، ووطد لهذا المبدأ الذي يعتبر ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية بمبادئه وسلوكياته القائمة على معيار العقل والمنطق، ومبادئ النظرة الكلية للكون، وقيم النزعة الذاتية التحررية. وبحسبهم أيضاً لا ضرر في اعتماد الحوار وسيلة في أهم الأمور الفكرية تعقيداً، لأن الإسلام أراد أن يفتح الطريق أمام العقول الواعية، لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تقليد يؤدي الى: (أ) التبعية العمياء للآبائية. (ب) أو الاستيلاب للأنظمة الشمولية التي جعلت نفسها واسطة في ما بين الإنسان والمطلق. وتبعاً لذلك، فإن الإيمان بالحوار في أقدس مبادئه انما يعني انتفاء أسباب الصراع، وعدم وجود مغذيات النزاع. فالحوار لا ينتج سلوكاً مستقيماً في الفرد والجماعة ما دام المحاور لا يستشعر بأن الآخرين أخوة له في الإنسانية، يتعايش معهم على أساس قائم على التوحد في المشتركات الأساسية للحياة، ويتوافق معهم في ما يضمن المصلحة الكبرى للبلاد والعباد، وما دام الحوار يؤدي الى تحقيق هذه المقاصد فإنه حوار جاد، وإلا، كانت الدعوة إليه وسيلة لدغدغة المشاعر، وتليين الأجواء، وتبليد الأحاسيس النافرة ليس إلا!! وفي المحصلة، يمكن إيجاز الشروط الأساسية التي يضعها المتصوفة من أجل حوار منضبط في ما يلي: أن يقوم الحوار على الاحترام المتبادل وشعور كل طرف بندية الطرف الآخر وإنسانيته. أن لا يتم الحوار في ظروف ملغمة، وانما باعتقاد كل فريق بنسبية الحقيقة والكمال معاً. افتراض حسن النيات الى أن يثبت العكس وعدم تقديم سوء الظن بالآخر. ضبط آليات الحوار والاتفاق في شأنها سلفاً، خصوصاً ما يتعلق بمناقشة قضايا خلافية محددة مما تقبل الجدل والنقاش من دون الدخول في تفاصيل عقدية تهدف الى النيل من الآخر أو التشكيك في عقائده. الإيمان بعدم حتمية الصراع والنظر إليه باعتباره نكوصاً وردة عن ركب الحضارة الإنسانية الواحدة على رغم تمظهراتها وتجلياتها المتعددة، أي الإيمان بعدم جدوى أو ضرورة الصراع وليس كما يروج له البعض باعتباره قيمة حضارية. التنقيص من كل ما يسبب العنف ويدعو إليه والعمل على إنهاء، أو الحد من، المسببات التي من شأنها أن تعطل السلم الاجتماعي. ضرورة الأخذ في الاعتبار أن دعاوى حتمية الصراع انما يتم الترويج لها بنية ابتلاع واستعباد وإضعاف الآخر، أي قصد الهيمنة على مقدراته في الدرجة الأولى. وأيضاً: طرح القضايا الكبرى أساساً للحوار والاتفاق في شأن المشتركات الإنسانية التي تتسم بطابع الإجماع، وترك الخصوصيات للاعتداد الشخصي والجماعي مع ضرورة احترامها من قبل الطرف الآخر. وأن يكون لكل طرف الحق في ممارسة قناعاته الخاصة بحرية تامة دونما ضغط أو إكراه أو محاولة فرضها - في المقابل - على مختلف الأطراف الأخرى. كما يطالبون الأطراف كافة بالدعوة الى ميثاق شرف إنساني يسمح ويقر بشرعية الخصوصيات الدينية والاجتماعية والثقافية لدى مختلف الأطراف المشاركة في عمليات الحوار. ومن الشروط المهمة كذلك: التأكيد على بديهية التنوع والتعدد باعتبارهما الأساس انطلاقاً من الآية الكريمة: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة»، والنظر الى هذين الأمرين (التعدد والتنوع) باعتبارهما سنة كونية حسنة تثري الحياة الإنسانية من دون أن تنتقص منها. وأن يكون الحوار بنية العمل على إنهاء الأزمات وليس مراماً لتكريسها وتأبيدها ولا منالاً لتمديد آجالها عند الطرف الآخر. وأخيراً يؤمن المتصوفة بأن الحوار، فضلاً عن كونه قيمة أخلاقية، فإنه يمثل كذلك قيمة «جمالية»، وأن ممارسة الحوار في شكل دائم مع الإقرار بوجود تفاوتات واختلافات، يجسد ضرباً من ضروب الديموقراطية التي تحرر الشعوب والأفراد من وباءات الشمولية والديكتاتورية واستعباد الأنظمة لشعوبها باسم القومية تارة وباسم الله تارة أخرى. هذا ويترتب على مثل هذا الفهم الصوفي لشروط الحوار أن لكل إنسان، بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عرقه أو معتقده، الحق في اختيار دينه انطلاقاً من قوله تعالى: «لا إكراه في الدين»، ولكل إنسان أيضاً الحق في انتخاب عقيدته السياسية وممارسة خصوصياته الثقافية والدينية والاجتماعية، والحق في أن يتساوى أيضاً مع الجميع في كافة الحقوق ومختلف الواجبات، لا أن يعلن نفسه فوق القانون والدستور والأعراف. ولعل ذلك هو ما عبر عنه بشر الحافي حين قال: «لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك، وكيف يكون فيك خير وأنت لا يأمنك صديقك؟!». * كاتب مصري