عمل في سبعين بلداً. مشهود له بدقته في تغطية الأحداث. الجميع ينتظر تقاريره الرصينة. لم يتعرض لمضايقة. لم يأخذ عليه المسؤولون عن عمله أي مأخذ على مهنيته. إنه الإعلامي البريطاني جيريمي بوين. انضم إلى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» عام 1985. كان موضع ثقة المشاهدين قبل المسؤولين. بدأت مشاكله عندما تسلم عام 1995 مسؤولية الإشراف على شؤون الشرق الأوسط. سلطت إسرائيل واللوبي الصهيوني الضوء عليه، خوفاً من مهنيته ودقته في تحرير الأخبار. الأسبوع الماضي، وبعد تحقيق استمر حوالي سنة قرر المؤتمنون (Trustees) على الهيئة أن بوين خرق التعاليم (قوانين الرقابة). كيف؟ نشر بوين في حزيران الماضي مقالاً على موقع «بي بي سي» الإلكتروني تحت عنوان «ستة أيام غيرّت الشرق الأوسط». كتب أن «الغريزة الصهيونية المتأصلة القاضية بتوسيع الحدود، ورفضها أي تأويل أو تفسير للقانون الدولي غير تفسيرها» تحكما بمجريات الحرب ونتائجها. خصوصاً عندما رفضت تطبيق القرارين 242 و338 اللذين يدعوانها إلى الانسحاب من الضفة الغربية والجولان. ويضيف أن «الجنرالات الإسرائيليين استغلوا الحرب ليستكملوا ما بدأوه في حرب الاستقلال (طرد الشعب الفلسطيني) عام 1948». أي احتلال ما بقي من فلسطين واعتباره جزءاً من دولتهم. قرر المؤتمنون على الهيئة أن بوين خالف قانون الرقابة وتعليماتها. وخرق قاعدة الحياد والنزاهة والدقة «لأن القارئ يستنتج من تقريره أن لا تفسير آخر للحرب»، أي التفسير الإسرائيلي. ومن حق هذا الآخر أن يبدي رأيه فقرروا تعديل المقال. الخطأ الآخر الذي ارتكبه بوين كان في كانون الثاني الماضي عندما قدم تقريراً بثه برنامج «من مراسلينا» وقال إن الولاياتالمتحدة «لا تعترف بمستوطنة هار حوما (جبل أبو غنيم) وتعتبرها غير شرعية». أخذ عليه المؤتمنون (الرقباء) أنه لم يحدد مصدره الأميركي. وعدم التحديد أدى إلى عدم الدقة والانحياز. هي الرقابة إذن في هيئة الإذاعة البريطانية. رقابة لم تتحرك ضد بوين إلا عندما بدأ العمل مسؤولاً عن شؤون الشرق الأوسط. المنطقة تختلف عن كل المناطق التي غطى حروبها وأخبارها. تختلف لأن فيها إسرائيل. وليس أدل على انحياز الهيئة من رفضها بث نداء للمنظمات الإنسانية لإغاثة أطفال غزة .هي منحازة لأنها لا تأخذ في الاعتبار القرارات الدولية التي تدين احتلال الأراضي الفلسطينية. ولا ترى أن المستوطنات اليهودية مخالفة للقوانين الدولية. وتطلق الإسم العبري على مستوطنة أبو غنيم. وتضطر الصحافيين إلى استخدام عبارة «القتل المستهدف» بدلاً من الاغتيال عندما يغتال الجيش الإسرائيلي مسؤولاً فلسطينياً أو عندما يهاجم بيتاً ويقتل أطفالاً بحجة أنه يؤوي مسؤولاً. لن نقول مع روبرت فيسك إن قرار هيئة الإذاعة البريطانية في حق بوين «جبان ومهين، وغير أخلاقي». ولن نؤكد معه أن الصحافيين في الهيئة «أسود يقودهم حمير». بل نقول مع تشارلز ديكنز إن «القانون حمار» يحتاج إلى إنسان يقوده، وها هي الرقابة تقوده إلى حيث المصلحة الإسرائيلية. لا أحد يستطيع تقدير مدى الضغوط الرقابية التي يتعرض لها الصحافيون في «بي بي سي» مثل الصحافي العربي الخاضع ل22 جهازاً رقابياً ولقوانين غير معروفة القائمون عليها يطبقونها مزاجياً.