هناك من بين أعمال فردي الأوبرالية عمل وضعه باكراً خلال حياته المهنية، حين كان، بعد في أواسط السنوات العشرين من عمره... ومن هنا، فإن كثراً من نقاده ومؤرخي حياته يعتبرونه، من الناحية الفنية على الأقل، عملاً ثانوي الأهمية، حتى وإن كان لا يزال يقدم حتى أيامنا هذه ويحقق نجاحاً. غير ان لهذا العمل، من ناحية أخرى أهمية مختلفة كل الاختلاف، تقنياً على الأقل. وليس فقط انطلاقاً من ان فردي قد تمرن في كتابته حقاً على الأعمال الأوبرالية الكبيرة، بل كذلك على الاعمال التي تتطلب تجهيزات ضخمة، بل لأن هذا الموسيقي إذ أدرك لاحقاً في حياته كما في مساره المهني ان هذا العمل لن يمكنه ان يدوم طويلاً، عمد لاحقاً الى استخدام ألحان كثيرة منه عند كتابته أوبرات أخرى له... بمعنى انه فكك ألحان هذا العمل ليعيد دمجها في أعمال لاحقة مثل «لاترافياتا» و «عايدة» وغيرهما. وسيحدد لنا خبراء موسيقى فردي ان هذه الاستعارات تبدت في الاعمال الجديدة، أقوى وأكثر ظهوراً، ما عنى في شكل خاص ان موهبة فردي الابداعية المؤكدة والمبكرة، كان عقله لا يزال في حاجة الى مزيد من التنظيم حتى يمكنه استيعابها واستيعاب كل تجلياتها. هذا العمل الذي نتحدث عنه هنا هو أوبرا «القرصان» التي لحنها فردي أوائل اربعينات القرن التاسع عشر، لكنها لم تقدم في عرض أول، وذلك في مدينة تريستا الايطالية إلا في العام 1848. وإذا كان فردي قد استخدم لتحقيق هذه الأوبرا نصاً شعرياً كتبه فرانشسكو ماريا بيافي، فالحقيقة ان هذا النص لم يكن سوى ترجمة موجزة لقصيدة انكليزية تتألف من ثلاثة أناشيد من نظم شاعر انكلترا الكبير بايرون. وهذه الحقيقة الاخيرة غالباً ما تنسى في أيامنا هذه، فلا يذكر الناس من «القرصان» سوى كونها أوبرا مبكرة لفردي. فعمّ يحكي هذا العمل، شعراً إنكليزياً وأوبرا ايطالية؟ يحكي، في كل اختصار عن أجواء الشرق وعوالمه، وهي أجواء كانت في زمن بايرون عزيزة عليه، لتضحى في زمن فردي عزيزة على فردي. أما الفارق في النظرة الى الشرق فيوجد في الفارق بين أناقة نص اللورد بايرون، وشعبية الرؤية المسيطرة على أوبرا فردي. وموضوع «القرصان» يتمحور من حول حاكم تركي يدعى سعيد باشا، يتولى الحكم على مجموعة من جزر أرخبيل يوناني يقع الى الشرق في البحر الأبيض المتوسط. لكنه الآن يستعد لشن حملة على مجموعة من الجزر اليونانية الأخرى. وفي الوقت الذي ندخل قلب الأحداث، يطالعنا المغامر الأفّاق كونراد الذي يتولى عادة السطو على السفن التي يشاء لها سوء الطالع ان تمر في المكان. صحيح ان كونراد رجل شرير، لكنه لا يخلو من الرغبات البطولية، ناهيك بأنه لأسباب عدة يكنّ إزاء الاتراك، لا سيما الحكام منهم، عداء شديداً. لذلك حين يتناهى الى علمه ان الباشا سعيد يجمع رجاله وسفنه ليقوم بحملته، يودّع حبيبته ميدورا، ويتسلل الى المعسكر الذي حشد فيه الباشا قواته وسفنه. وحين يصل كونراد الى المعسكر يطلب أن يؤخذ الى حضرة الباشا، بعدما كان سبق له أن دبر أمر تسلل عدد من رجاله الى داخل المعسكر. وأمام الباشا يزعم كونراد انه درويش، مدعياً أن القراصنة كانوا قد خطفوه وساموه ضروب العذاب. ويصدق الباشا حكاية كونراد آمراً مساعديه بإيوائه وإطعامه، في وقت كان القرصان المغامر يدبر مؤامرته ضد الباشا في الخفاء، وهكذا يندلع حريق في المعسكر ينتقل الى سفن الباشا الراسية غير بعيد من المعسكر. لكننا سرعان ما ندرك ان الحريق أتى سابقاً لأوانه، ما أدى من ناحية الى جعل الضرر الذي لحق بمعسكر الباشا وسفنه، جزئياً، ومن ناحية ثانية الى افتضاح أمر المؤامرة. وكان كونراد قد أصيب بجروح وحروق عدة، وبخاصة حينما أبت عليه شهامته إلا ان ينقذ غولنار، محظية الباشا من الحريق قبل أن يُعتقل ويأمر الباشا بإعدامه. وكاد هذا الأمر ان ينفذ لولا ان غولنار، التي لم تكتف بأن تشعر بالامتنان لأنه أنقذ حياتها، بل أُغرمت به أيضاً، لولا انها تساعده على الفرار... ثم تحاول أن تغريه بقتل الباشا، لكي يتسنى لهما الهرب معاً. لكن كونراد لم يرد أن يلطخ يديه بدماء الباشا، لذلك يرفض الاستجابة لطلب غولنار، فلا يكون منها إلا أن تقتل سعيد باشا بنفسها ثم تفر مع قرصانها المحبوب هرباً من المكان، ومن مطاردة جنود الباشا لهما. ويصل الاثنان الى جزيرة تشكل بر أمان بالنسبة إليهما. غير ان كونراد لا يلبث ان يعرف في الجزيرة أن حبيبته ميدورا قد ماتت حزناً عليه لأن أحداً كان زعم أمامها ان كونراد مات حين أمر الباشا سعيد بإعدامه... وتكون النتيجة ان كونراد، منذ تلك اللحظة يستبد به ندم شديد، ويختفي تماماً عن الأنظار تاركاً غولنار لمصيرها هائماً على وجهه. هذه الحوادث التي تشكل في الأصل موضوع قصيدة بايرون، هي نفسها التي استخدمها جيوزيبي فردي، كأساس لأوبرا «القرصان» حتى وإن كان قد اختصر بعض الشيء من التفاصيل لضرورات مسرحية تقنية. غير أن الأساس بقي على حاله: والأساس هنا هو ذلك البطل الغربي الأبيض الذي، مهما بدا شريراً قاسي الأفعال، فإنه في النهاية ستبدو عليه الطيبة والإثرة وسيمضي في الطريق المستقيم. وفي المقابل هناك الباشا الذي لن يصور إلا شريراً مهما فعل. وكانت هذه النظرة الاستشراقية مهيمنة بالطبع على معظم فنون تلك الازمان التي دنت من الشرق وحكاياته وأبطاله. وهي لا تزال كما هي - والى حد كبير - حتى يومنا هذا كما نعرف. وما يجب ان نلاحظه هنا هو ان بايرون، حينما كتب هذه القصيدة في العام 1814، كان من الواضح كم انه يرغب منها ان تعبّر عن نفسه وعن رغباته النضالية ضد الاتراك... هو الذي عانى ردحاً من زمنه يقاتل الى جانب اليونانيين ضد الاحتلال العثماني لبلادهم. ومن هنا لا يعود من الغريب ان نرى في هارولد صورة لبايرون نفسه. وتلك - على أي حال - لم تكن المرة الأولى التي يصور فيها بايرون نفسه على تلك الشاكلة. بل وبالاسم نفسه، في رسم لمصيره يماثل مصير شخصية أخرى غالباً ما ورد في أشعاره لتلك المرحلة: هارولد. وجيوزيبي فردي (1813-1901) لم يبدل من الأحداث كثيراً، ولا من الدلالات... كما نعرف انه طوال مساره المهني قد كتب أوبرات كثيرة مستوحاة من عالم الشرق... منها «عايدة» و «نبوخذ نصّر»... لكن أياً من هذه لم تصل في كاريكاتورية تصويرها للبطل الغربي الفاضل مقابل الشرير الشرقي، الى المستوى الذي وصلته أوبرا «القرصان» التي لا بأس من أن نذكر انها حين قدمت على المسرح للمرة الأولى حققت نجاحاً كبيراً... وظلت على الدوام تحقق نجاحاً مماثلاً له. حتى حين راح فردي نفسه يتحدث عنها لاحقاً على اعتبارها عملاً ثانوياً، وقال وكرر انه كتبها بسرعة... وخلال مدة لا تزيد على أسبوعين، إذ كان متأثراً حينها بالأجواء الساحرة التي تسيطر على أشعار بايرون، من دون أن ينظر بأدنى اعتبار الى أبعادها الأيديولوجية التي كانت، في زمنه، قد اصبحت متخلفة بعض الشيء. [email protected]