لدى الحكومة الصومالية ذخيرة دعائية كبيرة تستطيع أن تستخدمها في تشويه سمعة «حركة الشباب المجاهدين». إلا أن ضعفها العسكري واعتمادها على القوات الأجنبية يحد من تحقيق نجاج ملموس أمام عدو يبدو أقوى منها عسكرياً وأقرب منها إلى بعض قطاعات الشعب المغلوب على أمره. كان الانفجار الذي هزّ العاصمة الصومالية، مقديشو، في الثالث من هذا الشهر وأدى إلى مقتل ما لا يقل عن 24 شخصاً، بينهم ثلاثة وزراء، وأساتذه جامعيون، وطلاب وذووهم، حدثاً جللاً، حتى بمقياس الوضع الدموي في الصومال. فقد أثار الاعتداء غضب شعب فقد عشرات الآلاف من أبنائه في قتال بين المعارضة الإسلامية المسلحة التي تربطها علاقة بتنظيم «القاعدة» وبين الحكومة الانتقالية التي يدعمها الغرب. ولم يسبق أن استهدف الإسلاميون في هذا البلد الغارق في الفوضى منذ ما يقارب عقدين من الزمن، حفلة تخريح طلاب أو تجمعاً مدنياً، ولم يقتلوا، وبدفعة واحدة، مثل هذا العدد الهائل من نخبة أبناء شعب في أمسّ الحاجة إلى تخريج أطباء وطول عمر أساتذه جامعيين. ولأن مصيبة قوم عند قوم فوائد، لم يمر حدث الانفجار دون أن تستثمر الحكومة الصومالية الهشة وذات الإمكانات الإعلامية المتواضعة، العمل الإجرامي بكل المقاييس لمصلحتها، وضد أعدائها من الفصائل الإسلامية الطامحة إلى إطاحتها. فنشرت، وفي خلال ساعات، على الموقع الرسمي ل «إذاعة مقديشو» صورة الرجل الذي اتهمته بالوقوف وراء عملية التفجير الانتحارية، وقال المسؤولون إنه تنكّر بزي إمرأة قبل أن يتسلل إلى صفوف الحضور في الحفلة. وفي خلال دقائق من نشر الخبر والصورة - التي أظهرت جسد رجل دمّر الانفجار الجزء الأسفل منه - كان القراء الساخطون يصبّون جام غضبهم على من وصفوهم ب «اللادينيين» و «العديمي الرحمة» الذين نفّذوا، بحسب وصفهم، «مجزرة فندق شامو» في مقديشو. حرب العقول والقلوب ويقول مراقبون إن قيام حكومة تعوزها القوة العسكرية الرادعة والإعلام القوي بعمل بمثل هذه الدعاية، وبهذه السرعة، يدل على إدراك إدارة الرئيس شيخ شريف شيخ أحمد المحشورة في جيوب محدودة من العاصمة، حاجتها إلى خوض حرب من نوع آخر: حرب العقول والقلوب. إلا أن المراقبين يؤكدون إن التحدي الحقيقي يكمن في مدى مواصلة وفاعلية مثل هذه الدعاية التي تشوّه وتهز، بالصوت والصورة والكلمات، سمعة ومقام معارضة أقوى من الحكومة عسكرياً، بل وحققت إنجازات على الأض خلال السنتين الماضيتين وأقترن اسمها بفرض الأمن والاستقرار في مناطق نفوذها، على رغم استياء المواطنين من بعض تصرفاتها وأحكامها وأوامرها. ويكشف وزير الإعلام الصومالي طاهر محمود غيلي إن دعاية الثالث من شهر كانون الأول (ديسمبر) ضد المعارضين الإسلاميين ما هي إلا بداية لإستراتيجية حكومية هدفها الأساسي «نشر الحقيقة والتحدث إلى ضمير هؤلاء المنحرفين». ويقول غيلي في مقابلة مع «الحياة» في العاصمة الكينية نيروبي «إن أعداء السلام وظّفوا أساليب عدة للاستيلاء على وسائل الاتصالات المحلية، مثل التهديد، وقتل الصحافيين، وإغلاق الإذاعات المحلية. وهدفهم من كل هذا هو تحويل الإعلام المحلي إلى إعلام مساند لهم ولأفكارهم، إعلام رسمي ينطق بلسانهم ويتغنى بتصريحاتهم». بيد أن غيلي يعترف بعدم قدرة الحكومة الصومالية التي لا تسيطر إلا على أجزاء محدودة من العاصمة، على إجبار الإعلام المحلي على أخذ الموقف نفسه من الإسلاميين المعارضين للحكومة، لأن إدارة شيخ أحمد التي تدين لوجودها بقوات حفظ السلام الأفريقية المتمركزة في مقديشو، لا تستطيع ضمان أمن الصحافيين المحليين الذين فقدوا تسعة منهم هذا العام نتيجة العنف شبه المستمر في هذا البلد العربي الواقع في القرن الأفريقي، والغارق في ويلات حروب أهلية منذ أن أطاح زعماء حرب آخر حكومة مركزية في البلاد في عام 1991 ثم بدأوا التناحر في ما بينهم. ويقول غيلي إن المحررين وأصحاب شركات الإعلام في الصومال أبلغوه خوفهم من «حركة الشباب» و «حزب الإسلام»، أكبر فصيلين مسلحين في البلد، الأمر الذي يعني أن مآل أي حملة حكومية لاستمالة وسائل الإعلام ستمنى بالفشل، لأن القوة التي تتحكم بالأرض - وهي هنا حركات التمرد الإسلامية وليست الحكومة - هي التي ستتمكن من فرض أفكارها على الشعب الصومالي المغلوب على أمره. ويصف السياسي الصومالي عبدالشكور علي حرسي الذي يملك إذاعتين في الصومال، جهود الحكومة في التصدي لأفكار معارضيها الإسلاميين في وقت يعلم القاصي والداني أنها ضعيفة في مواجهتهم ب «الرقصة الأخيرة لحصان محتضر». ويعرف حرسي أكثر من أي شخص آخر معنى التحدي للإسلاميين في الصومال. إذ أنه أسس، وبدعم أميركي، «تحالف إعادة الأمن ومحاربة الإرهاب» في عام 2006 بهدف إستئصال شأفة المتشددين الإسلاميين، وتأسيس حكومة علمانية في البلاد. إلا أن إعلان التحالف في 18 من شباط (فبراير) من ذلك العام أعطى الإسلاميين المتذمرين من أنباء عن تسليم علماء صوماليين إلى الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه) فرصة للوثوب على ميليشيات هذا التحالف، ما أدى إلى اشتباكات بين الجانبين انتهت بهزيمة مسلحي التحالف في أواسط العام 2006. وكان «اتحاد المحاكم الإسلامية» بقياة الرئيس الحالي شريف أحمد وغريمه الحالي شيخ حسن ضاهر عويس، يصفون قادة تحالف حرسي ب «الصليبيين» بهدف الحصول على دعم الشعب المناهض بطبيعته للأفكار المعادية للإسلام. وأعطى هذا الفوز «اتحاد المحاكم الإسلامية» فرصة للسيطرة، وللمرة الأولى منذ عام 1991، على كامل مقديشو، وأنعش كذلك أمل السلفيين الصوماليين الذين ظنوا أنه حان وقت تأسيس «الإمارة الإسلامية» في بلد طالما اعتبروا أنهم مضطهدون فيه. وينتقد حرسي شكل حكومة أحمد الحالية، قائلاً إنها مكونة من أناس لا يتبنون أفكاراً واحدة ولا ينتمون إلى خلفية تاريخية واحدة، في إشارة إلى التباين الواضح بين خلفية أحمد في «اتحاد المحاكم الإسلامية»، وبعض أمراء الحرب السابقين في مجلس الوزراء في حكومته. ويقول حرسي إن مثل هذه «الطبخة غير الصالحة للصومال» ستجعل «من الصعب للغاية» هزيمة الإسلاميين عسكرياً وإعلامياً، مشيراً إلى أن الإسلاميين أنشأوا على مدى العقدين الماضيين «جيلاً كاملاً من الشباب على الأفكار الأصولية». تركة قاتلة خلّفها يوسف ومنذ أن شكّل المجتمع الدولي الحكومة الانتقالية في العاصمة الكينية، نيروبي، في عام 2004، كانت مشكلتها الأساسية إقناع المواطن البسيط بأنها حكومته فعلاً. وما زالت غالبية الشعب الكاره للتدخلات الأجنبية في بلده منذ ما يقارب عقدين من الزمن، ينظر إلى حكوماته الانتقالية المتعاقبة نظرة ازدراء لفشلها في توفير الأمن والحياة الكريمة اللذين وعدت بهما قبل أكثر من خمسة أعوام. وعلى رغم إصرار وزير الإعلام الحالي الذي عُيّن في آب (أغسطس) الماضي، على «قلب الطاولة» على الإسلاميين المعارضين لحكومته، إلا أنه من الصعب عليه أن يزيل «التركة القاتلة» التي ورثتها الحكومة الحالية من إدارة الرئيس السابق عبدالله يوسف الذي ضمت حكومته في قائمتها أمراء حرب سابقين يُلقى عليهم اللوم في كثير من الدمار الذي لحق بهذا البلد الغارق في الفوضى. وكان الرئيس يوسف الذي قاومته قبيلة «هاوي» في شدة ويعيش الآن لاجئاً سياسياً في اليمن بعد استقالته من الرئاسه في أواخر 2008، استنجد في الجزء الثاني من عام 2006 بالقوات الإثيوبية بعدما هدد اتحاد المحاكم الإسلامية حكومته. وأعطت هذه الدعوة إلتي وجهها إلى الإثيوبيين، على طبق من ذهب، الإسلاميين فرصة إطلاق دعاية «تكفير» حكومته وتصويرها على أنها «عميلة» لأديس أبابا، العدو اللدود للصومال. واعتبر كثيرون من الصوماليين وصول قوة السلام الأفريقية إلى مقديشو في آذار (مارس) من العام التالي (أي 2007) بوصفه امتداداً للاحتلال الإثيوبي الذي دام عامين قبل أن ينسحب في مطلع 2009 تحت وطأة هجمات فصائل المقاومة الإسلامية والقومية. وتتهم فصائل المعارضة الإسلامية ومنظمات حقوقية البعثة الأفريقية المعروفة ب «أميسوم» بقصف مناطق آهلة بالسكان وأسواق عامة في مقديشو كلّما قصف المسلحون الإسلاميون مواقعها. وهذه هي التهم نفسها التي كانت توجّه إلى الإثيوبيين في أثناء احتلالهم لمقديشو وغذّت العداء الشعبي للحكومة الانتقالية، إذ اعتقد كثيرون من المواطنين أن حكومتهم ارتمت تحت أقدام الاحتلال الإثيوبي ولا تستطيع نصرة شعبها. ولا شك في أن المعارضة الإسلامية تستقوي، إعلامياً وعسكرياً، بأخطاء الحكومة وحلفائها الأجانب، وبخاصة كلما قصفت القوات الأجنبية المناطق المدنية، لأن ذلك يسهّل للمعارضة عملية إقناع الشعب بأن هذه الحكومة لم تأت لتخفيف آلامه وإنما لزيادتها. وما يعرقل أيضاً نجاح دعاية الحكومة الصومالية ضد معارضيها عدم قدرتها على فرض صوتها على ساحة الإعلام المحلي الذي تسيطر عليه شركات خاصة يملكها أفراد لا يكترثون بمقت الحكومة للإسلاميين المتشددين، بل يولون اهتمامهم الأول لمواصلة العمل في مناطق يسيطر عليها مسلحون لا يرحمون من يسيء إليهم. وتوفّر محدودية خيارات الحكومة الصومالية تجاه الإعلام المحلي فرصة للإسلاميين الذين بسطوا نفودهم على جل المناطق الوسطى للبلاد وكامل المناطق الجنوبية باستثناء أجزاء بسيطة من العاصمة التي يراقبها ما يزيد بقليل على خمسة آلاف جندي من دولتي أوغندا وبوروندي. من جانبها، لم تغفل يوماً «حركة الشباب المجاهدين»، أقوى حركة إسلامية مسلحة في الصومال، الحرب الإعلامية التي تخوضها بشراسة لا تقل عن شراسة حربها العسكرية ضد ما تسميه «حكومة الردة». وهي لهذه الغاية وظّفت أساليب متعددة منذ أن أعلنت في أواخر عام 2007 انفصالها التام عن مظلة «اتحاد المحاكم الإسلامية»، وعاء السلفيين في هذا البلد. وأسوة بتنظيم «القاعدة»، بثث حركة «الشباب» أشرطة فيديو في مواقع لها على شبكة الإنترنت، وفي مواقع أخرى تستخدهما الحركات الإسلامية العالمية المتأثرة بفكر «القاعدة». كما استخدمت اللغة الصومالية والعربية والإنكليزية كمطية لإبلاغ رسالتها «الجهادية» إلى الصوماليين في المهجر، والمسلمين في شتى أصقاع العالم. وعندما أغلقت الاستخبارات الأجنبية مواقع عدة لها لجأت الحركة إلى إنشاء إذاعات محلية لها، وإغلاق أخرى رفضت الامتثال إلى أوامرها الرافضة تشغيل المرأة في الإذاعات والداعية إلى تسمية إدارة أحمد في مقديشو ب «حكومة الردة» وإهمال أخبارها. وسخّرت حركة «الشباب» الإذاعتين المحليتين التابعتين لها - «أندلس» في مدينة كيسمايو و «ورسن» (أي الخبر السار) في مدينة بيداوة - لأهدافها وبث أخبارها ودعايتها على مدار الساعة. وقد حققت دعاية «الشباب» إنجازاً في أوروبا وأستراليا وأميركا وكندا، إذ هب بعض المسلمين من عرب وعجم ل «نصرة إخوانهم» في الصومال، استجابة لمناشدة بهذا المعنى أطلقها زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري في أشرطة مختلفة. ويقول المسؤولون الصوماليون إن أكثر من 500 مقاتل أجنبي يقاتلون الآن في صفوف حركة «الشباب». ومنذ عام، تجري السلطات الفيديرالية الأميركية تحقيقات في ملابسات اختفاء ما يقارب من 20 شاباً أميركياً من أصول صومالية، يُقال إن ثلاثة منهم على الأقل ماتوا في الصومال. وتتهم هذه السلطات هؤلاء بأنهم ذهبوا إلى الصومال للانضمام إلى حركة «الشباب». وكان تقرير من شركة «مشروع الأمن الأميركي،» التي تتخذ من واشنطن مقراً لها وتعنى بتحليل سياسات محاربة الإرهاب، قال أخيراً إن الصومال أصبح ملاذاً للمتطرفين الإسلاميين، وإن بعض المقاتلين على الحدود الباكستانية - الأفغانية غادر أخيراً هذه المنطقة إلى الصومال. وعلى رغم كل هذا النفوذ الظاهر لحركة «الشباب» وسطوتها العسكرية على الأرض، إلا أن وزير الإعلام غيلي يقول إن لديه «أملاً كبيراً بهزيمة الدعاية المناهضة للحكومة»، مضيفاً: «هدفنا هو نشر الحقيقة والمعلومات الصحيحة. فإذا وضعت أمام إنسان معلومات صحيحة وأخرى خاطئة فإنه يميل إلى أخذ المعلومات الصحيحة. وهذا ما نفعله». ولهذا الغرض، فقد فض الوزير أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي الغبار عن «إذاعة مقديشو» التي كانت، بحسب قوله، «لا تغطي حتى كيلومتر واحد» من العاصمة قبل تعينيه في منصبه، ويشير إلى أن الإذاعة كان «يعوزها الإستوديوات ومكبّرات الصوت الفعالة والصحافيون المحترفون». ويقول غيلي، الذي يدّعي أن زوار موقع الإذاعة --www.radiomuqdisho.net-- يفوق الآن 60 ألف زائر في اليوم: «بفضل الله، عادت الإذاعة كما كانت، قوية ومؤثرة. لم أر في الداخل ولا في الخارج إنساناً يشتكي من إدائنا الإعلامي».