في الأمور ذات العلاقة بالدين فإن الرأي والفتوى والفيصل يكون لدى رجال الدين، ولأن ظاهرة «تجلي» السيدة مريم العذراء والتي انتشرت أخيراً في مصر ذات بُعد ديني فإننا في انتظار البيان الذي أعلن بابا الأقباط الارثوذكس البابا شنودة الثالث إنه سيصدره الأسبوع الجاري وسيحدد فيه رأيه القاطع في الظاهرة بعدما احتدم الجدل بين مصدق وناكر لها. اللافت أن صخب الحديث عن ظاهر تجلي العذراء تحول سريعاً إلى مجال للسجال السياسي وهو أمر صار معتادا في مصر خلال السنوات الأخيرة ربما بسبب الركود السياسي أو الرغبة في التغيير أو غياب الضوابط التي تحكم الممارسات السياسية كما الحال في الدول الغربية المتقدمة سياسياً. عموماً وحتى يصدر البابا شنودة بيانه فإننا سنتعاطى مع المسألة عند الرأي المبدئي الذي طرحه الأسبوع الماضي والذي أشار فيه إلى أن السيدة العذراء تظهر لمن يصدقون بأنها تظهر، وأن هؤلاء يرونها بقلوبهم قبل أعينهم. وأعتقد أن كلام البابا شنودة مقنع فأصحاب القلوب النقية الخالية من الأحقاد والضغائن والكراهية قد يرون الأنبياء والصديقين في أحلامهم وربما في خيالهم وهم في حالة الاستيقاظ. أما هذا الازدحام الشديد أمام الكنائس التي قيل إن السيدة العذراء تظهر عندها فإنه يعبر بكل تأكيد عن قناعة هؤلاء بأن الأمر حقيقي حتى لو ذهب الناس إلى المكان وبقوا فيه لساعات ثم عادوا إلى منازلهم دون أن يروا شيئاً وكل منهم سيطمئن نفسه ويتمنى أن يكون على موعد ليرى العذراء في اليوم التالي. أما الذين قالوا إنهم رأوها فإن من بينهم من قد لا يكون رأى أي شيء بعينه وإنما بقلبه وآخرون منهم من رأى بالإيحاء لمجرد أن من كان يقف إلى جواره قال إنه رآها. نأتي إلى السجال السياسي في مصر حول الظاهرة والذي طرح خلاله البعض تحليلات تقوم على أن الحكومة صنعت الظاهرة ونجحت فيها لتغطي على سلبياتها أو لتمرير قوانين أو قرارات يعترض عليها الشعب (قانون الضريبة العقارية مثلاً) أو أن الأمر أتى للتشويش على إعلان المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة إذا تحققت شروط طرحها تضمن سلامة الانتخابات ونزاهتها، هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن الذين أيدوا الظاهرة دون أن يرى أي منهم السيدة العذراء أو يقف وسط الزحام بين الناس في انتظار ظهورها وأدعى أن ظهور السيدة العذراء معناه رضا الله عن الحكم في البلد وأن الظاهرة تعد مباركة لما جرى ويجري!! إنه التأويل لظاهرة ذات علاقة بالدين وإقحامها لتحقيق فائدة سياسية، والمؤكد أن لا الكنيسة المصرية ولا البابا شنودة ولا الأقباط كلهم يقبلون بأن يكونوا أدوات في أيادي الحكم أو قوى المعارضة. ورغم كثرة أعداد المسلمين الذين يقفون كل يوم إلى جوار الأقباط أمام الكنائس لرؤية السيدة العذراء فإن اسوأ ما أفرزته الظاهرة ذلك التنابذ الطائفي بين بعض المسلمين وبعض الأقباط وخصوصاً على شبكة الانترنت والذي وصل إلى حد الشجار حول السيدة العذراء مريم نفسها وما إذا كانت قبطية أو مسلمة!! صحيح أن السنوات الأخيرة في مصر شهدت تراجعاً في مستوى الثقافة وتدنياً في مستوى التعليم وأن المناخ صار مشجعاً على تداول الخرافات وانتشارها وأن المتاجرة بالدين صارت من سمات العصر إلا أن مكانة البابا شنودة عند المسلمين المصريين قبل أقباطهم تجعل الأمر بعيداً عن الخرافة، ويجب أن تمنع عنه التأويل السياسي أو التنابذ الطائفي. ربط بعضهم بين أول مرة تفجرت فيها الظاهرة العام 1968 بعد أقل من سنة على هزيمة حزيران (يونيو) وبين الأحوال التي تعيشها مصر حالياً وتجدد الظاهرة. والحق أن مصر قد تكون تعاني ركوداً لكنها لا تعيش أجواء هزيمة وبغض النظر عن الرأي القاطع الذي سيعلنه البابا شنودة في بيانه المنتظر فإن الأجواء الإحتفالية التي أفرزتها الظاهرة واجتماع المسلمين والأقباط في مكان واحد لرصدها و»التبرك» بها أمر إيجابي افتقدته مصر لفترة. وسواء كانت السيدة العذراء تظهر وتتجلى حقيقة أو لا فإن في ذكراها محبة لكل الأديان والشعوب. وهذه هي الفائدة الكبرى.