خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، سئل الرئيس السوري بشار الأسد عن احتمال زيارته لبنان رداً على الزيارات المتكررة التي قام بها رئيس الجمهورية ميشال سليمان! وأجاب الأسد بالإيجاب، مع التحفظ بأن الزيارة المرتقبة ستتم في الوقت المناسب، وبعد أن توجه له دعوة رسمية. وكان هذا الجواب مثار تعليقات في الصحف اللبنانية لأن رئيس الحكومة سعد الحريري زار دمشق من دون أن يتلقى دعوة رسمية. وبدلاً من أن يستقبله رئيس الحكومة السورية ناجي عطري، كُلف بهذه المهمة وزير شؤون رئاسة الجمهورية السوري منصور عزام. ومع أن الاستقبال الاستثنائي الذي أعده الأسد لضيفه خفف من وقع الانتقادات، إلا أن صفة الاستعجال التي تمت بها الزيارة واجهت اعتراضات المعترضين على الأسلوب كأن الحريري تسلل الى سورية. وحجة هؤلاء أن التحضيرات التي تترافق مع هذه العملية السياسية، لم تقنع الشرائح الشعبية – مسيحية كانت أم سنيّة – بإخراجها المرتجل. ومن قبيل المزايدات، استحضر المعترضون وقائع الزيارة التي قام بها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لدمشق، وكيف استشار المشايخ والحزب قبل إقدامه على هذه الخطوة. ويتذكر اللبنانيون حالات الضيق والتردد التي عاناها وليد جنبلاط عقب اغتيال والده (16 آذار 1977) وكيف هيأ لزيارة دمشق عبر الهيئات النافذة سياسياً وطائفياً. ففي المرحلة الأولى أعلنت الجمعية العمومية التنظيمية للحزب التقدمي الاشتراكي، عن موافقتها على الزيارة، معللة ذلك بخدمة القضايا القومية المشتركة، وضرورة التعالي على الجراحات. وفي مرحلة ثانية، صدر بيان عن مشايخ الطائفة الدرزية يدعم هذا الخيار ويبرر لوريث الزعامة، كل المواقف التي تساند سلامة الطائفة ودورها الريادي. وهكذا توجه وليد جنبلاط الى دمشق متسلحاً بالتغطية المطلوبة. صحيح أن القاعدة الشعبية ل 14 آذار لا تسمح لسعد الحريري بالتحرك المريح كما حدث مع وليد جنبلاط... ولكن الصحيح أيضاً أنه كان بمقدوره الحصول على دعم عدد كبير من السياسيين ورجال الدين، الأمر الذي يخفف من وقع الصدمة على الذين أيدوه وانتخبوه. وبسبب تجاهل رأي الجمهور، فُسرت عملية مقتل عامل سوري في شمال لبنان، بأنها تعبير عن استياء من تصرف سعد الحريري. ومن الأحداث التي تجاهلتها الدولة اللبنانية عن قصد، كانت حادثة تمزيق صورة الرئيسين الأسد والحريري وهما يتصافحان بحرارة. ويبدو أن أحد أنصار الحريري اختار هذه «اللقطة» كي يرفعها فوق محله في طرابلس، الأمر الذي قوبل بالرفض من قبل أنصار تابعين لتيار 14 آذار. ومن خلال هذه الحادثة يمكن فهم حالات الخلاف في وجهات النظر بين جماعة الفريق الواحد. ومثل هذا التصرف ينبئ عن دنو تفكّك هذه الجبهة بسبب ضياع الهدف الذي كان يجمع مليون نسمة في التظاهرات الكبرى. ولم يكن السجال الذي حدث بين وزير الأشغال غازي العريضي وسعد الحريري سوى عيّنة من عينات انفراط عقد هذه الكتلة التي جمعتها وحدة الفواجع والاغتيالات. مع العلم أن العريضي كان يثير مسألة بالغة الأهمية تتعلق بمخالفة دستورية يصعب تجاوزها إلا بقرار صادر عن مجلس الوزراء ومجلس النواب. في خطابه الأخير حدد السيد حسن نصرالله للحكومة الجديدة مواصفات المرحلة المقبلة، وطلب منها حصر اهتماماتها بالمشاكل التي تشغل بال المواطنين كأزمة السير والبطالة والطبابة وما الى ذلك من شجون. وحذر من المخاطر الإقليمية والدولية، منبهاً الحكومة الى تحاشي المطبات والألغام. وكان بهذه المؤشرات يرسم خريطة الطريق لسلام الشرق الأوسط أو حربه. في ضوء هذه الاعتبارات يمكن رسم صورة سريعة للمتغيرات التي ستحدث في لبنان من جراء المصالحة التي تمت في دمشق يوم السبت الماضي. أول فريق متضرر من عودة العلاقات السورية – اللبنانية، هو الفريق الذي يتخذ من الإسلام السياسي حجة لبث دعوته. ومع أن تواجده محصور في مناطق معينة مثل الضنية وطرابلس ومجدل عنجر والبقاع، إلا أن نفوذه منتشر في غالبية المدن والقرى ذات الكثافة السنية. وقد استغلته «القاعدة» في بعض المراحل لنسف العلاقات اللبنانية – السورية عملاً بمبدأ مقاومة كل تقارب عربي – عربي. المتضرر الآخر هو التيار الماروني الذي يقوده الدكتور سمير جعجع في معركة الصدام ضد العماد ميشال عون وكل ما يمثله من تعاطف مع «حزب الله» وسورية وايران. وهو بالتأكيد سيعتمد على عباءة البطريرك صفير في صد الغارات السياسية والإعلامية التي تستهدفه من الآن فصاعداً. ومع انخفاض في درجة العداء لهذا التحول، تقف «كتائب» آل الجميّل على مسافة غير بعيدة من سورية، على أمل الحصول على مكاسب سياسية في الوزارات والدوائر الرسمية. أما بالنسبة للفريق الماروني المستقل مثل الوزير بطرس حرب، فإن التعاطي معه سيكون بحجم القوة الانتخابية التي يمثلها. ومعنى هذا أن قيمته الذاتية هي التي تحدد دوره داخل الكيانات السياسية الجديدة. ويرى المراقبون أن الدور القيادي الذي اضطلع به سعد الحريري منذ اغتيال والده، ستتضاءل قوته وتتوزع روافده على الطامحين للعب دور رئيس الوزراء من أمثال نجيب الميقاتي ومحمد الصفدي. بقي السؤال المتعلق بأداء سورية في المرحلة المقبلة، وما إذا كانت ستنتقم من خصومها، أم أنها ستعمل بوحي خطاب الرئيس بشار الأسد الذي اعترف ببعض الأخطاء طوال حضور قوات بلاده في لبنان مدة 29 سنة؟! للجواب على هذا السؤال يمكن العودة الى التعليق الذي أدلى به عبدالحليم خدام عقب مهاجمة المنطقة الشرقية من بيروت آخر السبعينات. قال: «إن سورية تعامل خصومها في لبنان مثل معاملتها خصومها داخل سورية». وهذا معناه الرجوع الى اعتماد منطق «الأمن القومي» الذي يحلل استخدام كل الوسائل في سبيل حماية النظام. ولكن إعلان الرئيس الأسد عن انسحابه العسكري من لبنان، وعن موافقته على تفعيل المؤسسات بين البلدين، يقدّم الضمانات السياسية بأن لبنان في عهد الرئيس ميشال سليمان لن تعامله مثل لبنان في عهدي الرئيس الياس الهراوي واميل لحود. ومثل هذا التموضع يقتضي العودة الى اتباع سياسة التعاون التي أرسى دعائمها جمال عبدالناصر وفؤاد شهاب، والتي عرفت ب «سياسة الخيمة». أي التنسيق المتواصل على المستويات الأمنية والاستخباراتية والدفاعية والخارجية. وربما ينضم «حزب الله» الى التنسيق الجديد بعد إدخال إيران في منظومة الشرق الأوسط. عقب توقيع 49 اتفاقاً لتعزيز العلاقات الثنائية مع سورية، أعلن رجب طيب أردوغان أن الموقع الجغرافي للبلدين يؤهلهما للقيام بدور بوابتين للدول المجاورة. وكان بهذا الكلام يذكّر بسلسلة المصالحات التي أجراها مع أرمينيا وغيرها من الدول المجاورة قبل أن يعلن سياسة الباب المفتوح مع سورية. وفي هذا السياق يمكن تفسير الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني، علي لاريجاني للقاهرة، والتي خلفت لديه انطباعات إيجابية تبشر بالانفراج بين البلدين. كما تفسر معنى الزيارة التي قام بها الرئيس حسني مبارك للسعودية والإمارات والكويت. ويؤكد الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى أن المسافة الزمنية التي تفصل المنطقة عن القمة العربية المقررة في ليبيا (27 و 28 آذار) ستكون ملأى بالنشاطات السياسية وكل ما يعزز فرص التعاون بين أعضاء أسرة الشرق الأوسط الجديد. ويرى المحللون أن الوساطة التي تقوم بها سورية مع ايران في شأن تمرد الحوثيين قد تتطور الى وضع مستقر كما يقول الرئيس اليمني علي عبدالله صالح. ويتوقع هؤلاء أن تشمل المصالحات مختلف الدول العربية بحيث تكوّن المنطلقات لتكامل اقتصادي يتسع لأكثر من ثلاثين دولة. وماذا عن اسرائيل؟ وضع بن غوريون لبلاده قاعدة ثابتة على صعيد السياسة الخارجية، مفادها أن اتحاد الدول العربية أخطر على اسرائيل من القنبلة النووية. لذلك تجب مقاومتها ولو بالحرب. وفي ضوء هذه القاعدة يتوقع المراقبون في واشنطن أن تتحرك اسرائيل ضمن خيارين ملزمين: أو شن حرب مفاجئة في موقع حساس ينسف كل المساعي التي تقوم بها تركيا وسورية... أم القبول بالعرض التركي والتقدم باتجاه السلام مع سورية أو الفلسطينيين. ومثل هذا الخيار الصعب يحتاج الى دليل واقعي تمكن ترجمته بالإفراج عن القائد «الفتحاوي» مروان البرغوثي، والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات وقادة الجناح العسكري لحركة «حماس» ابراهيم حامد وعبدالله البرغوثي وعباس السيد وجمال أبو الهيجا وحسن سلامة. والى أن يحسم بنيامين نتنياهو هذا الأمر، فإن ولادة المنظومة الشرق أوسطية الجديدة، ستظل مجرد مشروع لم تكتمل مقوماته بعد. * كاتب وصحافي لبناني