يلقبونه في فرنسا بعبقري العود. انه التونسي أنور براهيم الذي قدّم أخيراً وصلة موسيقية في إحدى أكبر وأفخم القاعات الباريسية «بلييل» التي لا يقدر على الوقوف فوق خشبتها إلا عمالقة الموسيقى الكلاسيكية عموماً. وحملت وصلته عنوان «عيون ريتا المدهشة» تكريماً للشاعر محمود درويش ولقصيدته «ريتا والبندقية» التي غناها مارسيل خليفة. ولد براهيم في مدينة حلفاوين التونسية وتعلم الموسيقى هناك على أيدي أساتذة من بينهم علي سريتي، وتخصص في العزف على العود، إلا أنه بفضل ثقافته العالية وإلمامه بالألوان الموسيقية المختلفة وحبه للجاز، تخصص في تقديم وصلات تختلف عما هو معتاد سماعه في هذا الميدان وترك العنان للتأثيرات المتنوعة كي تقود خياله إلى آفاق فنية جديدة وجريئة وتدفع به إلى إدخال نبرات غير تقليدية على آلة العود الأمر الذي اكتشفه وبدهشة جمهور قاعة «بلييل». ولعل أبرز ما لفت الانتباه في هذه الوصلة الباريسية كان عنصر الصمت الذي تخلل الفقرات الموسيقية. وفي هذا الخصوص يقول براهيم إنه تأثر كثيراً بالفيلم التركي «القردة الثلاثة» للسينمائي نوري بيلج سيلان حيث يلعب الصمت دوراً أساسياً في تصور الحبكة وفي سير الحكاية، على رغم أن الحوار شيق في كل مشاهد الفيلم، إلا أن الكلام كانت تقطعه فجأة فترات من الصمت اعتبرها براهيم جزءاً لا يتجزأ من اللقطات بل ربما أنها تعبر عن معاني النص أكثر من الحوار في حد ذاته. وأمام إعجابه الشديد بالفيلم المذكور أراد براهيم أن يفعل الشيء ذاته في الموسيقى فألف مقطوعات يعزفها على العود تاركاً فواصل كبيرة من الصمت في كل المقطوعة على أمل بأن تساعد هذه اللحظات الصامتة كل مستمتع ومتفرج في حسن إدراك المعاني الخفية للموسيقى. وقدم براهيم وصلته في صالة «بلييل» بصحبة ثلاثة موسيقيين مخضرمين هم كلاوز غيزينغ عازف الكلارينيت، وبيورن ماير على الغيتار، وخالد ياسين على الدربكة. وكان براهيم قد اعتاد العمل منذ ست سنوات مع ثلاثي آخر، وفسر التغيير الذي طرأ على الفرقة بكون الموسيقى لا بد أن تنشد للحرية وبالتالي أن تصاب بتغييرات جذرية وإلا تموت، مضيفاً أنه كان على وفاق تام مع الثلاثي الأصلي، لكن الضرورة الفنية هي التي فرضت ما حدث. وحول الموسيقى في شكل عام يقول براهيم: «هي بمثابة فترة استراحة أعيشها وسط كل المشاغل اليومية حالي حال غيري، وعلى رغم صعوبة ممارسة الموسيقى بعامة، فهي تظل ترفه عني وتسمح لي بالتحليق عالياً في سماء الخيال وراحة البال وصفاء النفس». ويؤكد براهيم، أنه عرف قدره منذ طفولته، الموسيقى والعزف على العود ولكن من دون أن يدري كيف يتم ذلك، وهو فور تخرجه من كونسرفاتوار الموسيقى شعر بأنه بلغ مرحلة النضج التقني والفني الضروري للوقوف فوق خشبة مسرحية وعزف مقطوعات تناسب وجدانه وإحساسه الشاعري.