اجتمعت في جامعة البلمند (شمال لبنان) قلوب وآذان عشاق الأصالة والفرادة المتشوقين لسماع الغناء العربي بأحلى تجلياته. كانت مغامرةً يصعب التنبؤ بنتائجها. فمكان الاحتفال على جماله وحسن تنظيمه يُصنّف «بعيداً» بالمقاييس اللبنانية. ونوعية الطرب الموعود في الدعوة المتواضعة: «تحية لمحمد عبدالوهاب». كلها تترك المجال مفتوحاً أمام حفنة من التكهنات والمخاوف... لكن «أبعاد» وهو اسم الفرقة التي رافقت الفنان غسان بشير، استطاعت كسر جليد الرتابة الموسيقية التي عانى منها المستمع الذواقة على مدى السنوات الأخيرة في حضرة العشرات وربما المئات من المطربين الذين يعتلون المسارح والمطاعم. وتقوم ماكينة إعلامية هائلة الموارد بتسويقهم وفرضهم على وعي وذوق الملايين، حيث يصبح صوت غسان بشير وأمثاله القلائل صرخة مارد في واد سحيق... وعلى رغم من هذا الكم الكبير من أشباه الفنانين، تبقى الأذن العربية في شوق للصوت الطربيّ الأصيل، للكلمة المشبعة بالمعاني السامية، وللألحان النابعة من عبق المقام النهوندي العتيق وللراست والأنغام الوترية الرقيقة، التي تأخذ الروح الى عالم شجيّ من التناغم بين الأبيات الشعرية والموسيقى الراقية والأداء المبدع... تستقبلك «أبعاد» بمقدمة «أنت عمري» للموسيقار محمد عبدالوهاب، كأني بها تخاطب كل ضيفٍ في القاعة الجميلة وترحب به بتهذيب موسيقي لطيف. ثم يرتجل غسان بشير كلماتٍ قليلة ويعترف أن «تحية» الموسيقار عبدالوهاب هي رسالة «نعرب بها عن احترامنا وتقديرنا لفنه الجاد المميّز، ونؤكد بواسطتها وجود جمهور لا يستهان به لا يزال شغوفاً بمفهوم الطرب الأصلي والأصيل، وقادرٍ على حماية التراث واستحضاره بأبهى صوره ليضعه بوجه «طقاطيق» الفن المزيّف أو الرخيص». ... ويبدأ بشير عملية استلاب المستمعين من دون تلكؤ، و«ينقضّ» عليهم من علياء الأغنية المثال: «ما دام تحب بتنكر ليه؟» (ألحان محمد القصبجي وغناء أم كلثوم). فيتهادى الجمهور معه بين المقامات والاكتنافات والجسد، بين الكلمة واللحن، بين الأداء الرائع والاستماع المرهف. تتوالى سيمفونية الطرب والصوت الرخيم وتلتهب الأيدي بالتصفيق وترتفع صيحات الاستحسان والاستزادة ويحدث التلاقي بين رغبة المستمع المتعطّش وعطاء الفنان المتصل بفضاءات الوجود على مذبح «الهوى والشباب» (كلمات الأخطل الصغير وغناء محمد عبدالوهاب) ويسيل النغم بانسياب رقراق تحت ضرب الأنامل البشرية والتبشيرية على العود المنفرد بذاته. تحتار الأذن بين الإنصات والتنصت، بين السحر والانبهار، وغسان بشير يعطي مجموعة المريدين «الصبا والجمال» (كلمات الأخطل الصغير وغناء محمد عبدالوهاب) تكاد تنفلت معها أكداس من المشاعر والحنين والأحاسيس الرائعة فيضج المكان، ويطلب الجمهور المزيد فيطل عليهم باسماً عبر الكورال الصادق مع الفجر ونداء رقيق حنون في أغنية «يا فجر لما تطل» (كلمات محمد علي فتوح، ألحان مصطفى كريدية) ثم يشرق تماماً مع «الناس المغرمين» (كلمات عبدالوهاب محمد، ألحان كمال الطويل وغناء محمد عبدالمطلب)... تستمر جلسة التجلي والارتقاء في المكان والزمان ساعتين عبرتا كما يعبر السهم من أنشوطته... فالفرقة الموسيقية «أبعاد» تتمتع بأبعاد واسعة كان من الأجدى لو تمّ استخدامها بالجملة والمفرّق، قائدها إبراهيم فرشوخ لم تسنح له الفرصة لإطلاق ريشته الذهبية على أوتار عوده ليتحف الجمهور بتقاسيمه المميزة. كما إن الفنان الموهوب نبيل جعفر لم يتمكن من تبيان طاقاته الإبداعية على البيانو الذي كاد ينطق باللغة العربية تحت أنامله. ولعلّ العازف سليم نابلسي على الرق استطاع أن يمنح الحضور دقائق ثمينة من الإيقاع المدغدغ الطروب. وبقي عزف بهيج سلهب على الكمان يقول لنا هذا غيض من فيض! ومن الطبيعي أن زهير جمال أيضاً كان على أهبة الاستعداد ليطلق ألحان كمانه في سماء المسرح. ولا بد من الإشارة الى العازف الشاب على الأورغ هادي زهير جمال الذي تمكن أن يجاري خبرة الأساتذة الكبار (على رغم هفوات تكاد لا تذكر). وثمة ملاحظة تنطوي على نوع من العتب ومفادها أن الكورال (ايفلين شيخوفا، كيندا خزعلي وكريستينا رهبان، انطونيو شيخوفا والان شيخوفان) كان متميزاً بأدائه وتناغمه لكنه لم يعطَ الفرصة ليتفتح مثل باقة الورد فيفرح الناظرين والسامعين ويريح مرشده غسان بشير الذي آثر التفرد بالتضحية والعطاء على رغم وجود هذا الشلال الهادر من الطاقات المبدعة الى جانبه. * باحث موسيقي