كشف الباحثون في حقل الأدب العربي، منذ عصر النهضة أنّ هذا الأدب متعدّد الأنواع والفنون، وأنّ القول المأثور «الشعر ديوان العرب» فيه الكثير من التجنّي على العرب، وعلى نتاجهم النثري الذي لا يقلّ أهميّة عن نتاجهم الشعري. إنها مفارقة حقيقيّة، ذلك أننا نجد الإنتاج حين يتعلّق بالنثر، غنيّاً وغزيراً. لكنّنا بالمقابل نجد «الثقافة العالمة» ثقافة المدارس والجامعات لا تضعه في صلب انشغالاتها على صعيد البحث والدراسة والتعليم. فالعرب أنتجوا الشعر كما أنتجوا النثر، وتركوا لنا آثاراً هائلة فيهما منذ الجاهليّة حتى اليوم. آثار سجلّت مختلف صور حياتهم وأنماطها، ورصدوا من خلالها مختلف الوقائع، وما خلّفته من علامات في المخيّلة والوجدان، وعكسوا عبر توظيفهم إيّاها مختلف تمثلاّتهم للعصر والتاريخ والكون، وصور تفاعلاتهم مع الذات والآخر. ندلّل على ذلك ب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، ونضيف كتب التاريخ والجغرافيا والرحلات والحكايات والقصص والسير. هذا التراث العربي في النثر، لم يلق العناية نفسها التي لاقاها الشعر، ويعود ذلك إلى تصوّر ثقافي محدّد لا بدّ من تغييره. إنّ التفكير في طغيان الشعر على النثر يدفعنا إليه الاعتبار بأنّه لا يمكن لأدب أي شعب أن يكون رافداً من روافد وحدته الثقافية والحضاريّة ما لم يتمّ الوعي به تاريخياً من كل جوانبه، في تشكّله وتطوّره، ولا يمكن أن نحتفل بجانب من مكوّنات الشخصيّة الثقافية العربية ونهمل جانباً آخر. إن المعوّل عليه في مثل هذا النشاط هو تغيير المفهوم وإحلاله مكانه المناسب ضمن نظرية الأنواع، من منطلق طرح المشاكل الحقيقية للأدب والإحاطة بها. يدخل كتاب «أمراء وأسرى وخواتين – حكايات ابن جبير مستخلصة من رحلته» التي اختارها وقدّم لها الكاتب علي كنعان، (منشورات المجلس الثقافي، أبو ظبي) في صلب التصوّر الآنف الذكر، فهو يدخل في نطاق النثر الأدبي العائد للرحلة الذي يصوّر كاتبه (ابن جبير) من خلال مشاهداته دقائق يومياته في الحلّ والترحال عبر البحر والبر، في حالات السكينة والأمان، وفي أوقات العواصف والأهوال، غير عابئ بالمصاعب والأخطار التي تواجهه أثناء الرحلة. لم يكن ابن جبير في رحلة الحج الى مكة مسافراً حيادياً، أو سائحاً عادياً ينشد الفرجة والمتعة، وإنما كان يبذل جهداً استثنائياً في الإحاطة بمعالم المكان الذي يمر فيه. لذلك نراه يتحدّث بالتفصيل، وفي لغة سهلة تميل أحياناً الى السجع، عن الأبنية الأثرية، والأماكن الإسلامية المقدسة وما اقترن بها من مساجد وزوايا وأضرحة، ومرافق خدمات، ومواقع غزو وصلح. ولا ينسى ذكر ما جرى في تلك المواقع من أحداث هامة أخرى كحفر سبل الماء وترميم معالمها العمرانية. يكتب ابن جبير في هذا السياق: «جدة قرية على ساحل البحر، أكثر بيوتها أخصاص، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين، وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف، ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدلّ على أنها كانت مدينة قديمة. وأثر سورها المحدق باق الى اليوم. وبها موضع فيه قبّة مشيّدة عتيقة، يذكر أنّه كان منزل حوّاء أمّ البشر». وتبيّن نصوص الرحلة التي خطها ابن جبير مدى اهتمامه بالتفاصيل من ذلك ذكره للتواريخ اليومية، وظهور الأهلة، ورصده وتسجيله لكل ما يمر به أو يراه من طبيعة الأرض، وطرقها، والمسافات التي قطعها، وأحوال الجو، وأنواء البحر. يكتب في هذا السياق قائلاً: «وفي ليلة الأربعاء عصفت علينا ريح هال لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوّة كأنه شآبيب سهام. فعظم الخطب واشتدّ الكرب وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة. فبقينا على تلك الحال الليل كله، واليأس قد بلغ منا مبلغه». ويصف ابن جبير أيضاً أحوال البر قائلاً: «والطريق من الحلة الى بغداد أحسن طريق وأجملها، في بسائط من الأرض وعمائر، تتصل بها القرى يميناً وشمالاً، ويشق هذه البسائط أغصان من ماء الفرات تتسرب إليها وتسقيها فمحرثها لا حدّ لاتساعه وانفساحه، وللعين في هذا الطريق مسرح انشراح، وللنفس مراح انبساط وانفساح». وابن جبير الذي كان أحد كتاب الدولة الموحدية جلب معه من الأندلس ومن غرناطة حيث كان مولده أسلوب أهل المدن الذين قلّما يهتمون بالسجع، والمحسنات البيانية، وبذلك ساعد في ترقي أسلوب الكتابة، لا بل يعزى إليه بأنه سبق الكثيرين في الشرق والغرب باعتماد أسلوب المذكرات اليومية. يكتب ابن جبير أثناء عودته من الحج إلى غرناطة في الأندلس: «في ظهر يوم الأربعاء التاسع من شهر ذي الحجة والثالث عشر من مارس، وهو يوم عرفة، كان صعودنا الى المركب مبيتين للسفر فأصبحنا على ظهر المركب صبيحة يوم عيد الأضحى ونحن نيّف على الخمسين رجلاً من المسلمين، فلم نزل نتردّ من المركب الى البر، ونبيت للسفر كل ليلة اثني عشر يوماً، الى أن أذن الله بالإقلاع». يلعب المكان في رحلة ابن جبير دوراً شبيهاً بدور البطل في الرواية أمّا الرحلة بحد ذاتها فهي خطاب وصفي يضع في الاعتبار الأول البعد المكاني على حساب البعد الزماني كما في الرواية. أما المقارنة بين الرحلة والرواية فليست كما يبدو سوى تمثيل بسيط للتمايز التقليدي بين التاريخ والجغرافيا. ذلك أن الحدث في تطوره الزمني يشكّل موضوع التاريخ بينما المكان في تتابعه العياني يكوّن موضوع الجغرافيا. المكان في الرحلة إذاً، هو الأساس، الذي يتمّ حوله السرد، وهو البطل الذي يتحدّث عنه صاحب الكلام (الكاتب) أو إذا شئنا الراوي بلغة الفن الروائي. إن راوي الأحداث في الرواية يذهب الى تأليف زمنها في مكان واحد أو أكثر، أما كاتب الرحلة فالأحداث عنده تتمركز حول المكان، والمكان فقط، فهو ذات واقعيّة تقدّم معاناتها حول اجتياز المكان وبالتالي من الصعب مناقشتها في صحة ما رأت، أمّا في الرواية فالراوي ليس ذاتاً واقعيّة وإنما ذات وهمية يمكن مناقشتها. من تَرْك غرناطة بحسب ابن جبير عام 578 ه والرجوع إليها ينصرم عامان وثلاثة أشهر. وبين الزمنين كانت رحلة ابن جبير إلى الحجّ. رحلة بطلها راو يختلف عن راوي القصة لأنه ينفعل بالفضاء الذي يوجد فيه، ويقع الفعل عليه سلباً أو إيجاباً. يقول الراوي الشخصية: «وأقمنا ليلتنا في هول يؤذن باليأس وأرانا بحر فرعون بعض أهواله الموصوفة، إلى أن أتى الله بالفرج مقترنا مع الصباح... ولاح لنا برّ الحجاز على بعد لا نبصر منه إلا بعض جباله... فجرينا يومنا ذلك بريح رخاء». على هذا النحو يسرد الراوي الشخصية ابن جبير ما وقع له ولأصحابه في بحر فرعون، والأعمال التي قام بها الربان إلى أن وصلوا إلى برّ الأمان. وعلى هذا المنوال ينقل لنا تجربة حياة طويلة المدى، غنيّة الفصول عاشها الأديب الأندلسي، وقدمها بكثير من الانفعال والتأثر الذي يذهب من أقصى درجات اليأس والقنوط الى الإحساس بالأمن والاطمئنان. يبيّن ابن جبير في نصوص رحلته أنه من أوائل المؤسّسين لفن كتابة المذكرات بالكشف يوماً بيوم عن حيثيات رحلته الى الحج. رحلة تذكّر بأديب لم يعط حقه بالدراسة ولم يعط المكان الذي يليق به داخل التراث النثري العربي. رحلة تذخر بالحكايات التي تعبّر عن غنى المخيلة العربية وآليات عملها في رؤية الذات والعالم.