في مجموعة «شخص حزين يستطيع الضحك» (بيت الياسمين، القاهرة)، يضع القاص المصري صابر رشدي قارئه النموذجي أمام عنوان يعرض مفارقة دالّة لا تخطئها عين، والمفارقة هنا ليست بين فعلين سرديين منتجين «الحزن/ الفرح» فحسب، وإنما تتجلّى في الإقرار بحال الأسى «شخص حزين»، والقدرة على المجابهة «يستطيع الضحك» في الوقت نفسه. إنها مجموعة قصصية تتسّم بالجدة والتنوع والقدرة على أنسنة المعنى، وربطه دوماً بسياقات جديدة، والنظر إليه من زوايا مختلفة. هنا تلوح الهواجس والأحلام والإحباطات مثلما تظهر الأماني، وتبدو الآمال، والقدرة على مقاومة القبح حتى لو عبر «ضوء شفيف»، كما في النص الذي يحمل العنوان ذاته، أو اكتشاف الطمأنينة الغائبة، أو الاصطدام بواقع كذوب عبر حالة «الرومانسي الأخير»، أو الضحك في أوقات تستدعي مشاعر أخرى، فتبدو القصص كلّها تعبيراً عن نوازع إنسانية وحالات موصولة بحبل سري يربط بينها، وبلحمة سردية ورؤيوية تجمعها، معنية بتيمات بدت هي الأشدّ حضوراً في النص، مثل تيمة الخوف، التي تقابلها رغبة عارمة في الأمان، والخروج من توترات داخلية تعانيها الذات الساردة، القلقة، والباحثة عن أمان غائب، وأمل مبتغى، والساعية لاكتشاف عوالم جديرة بالبشر/ بالإنسان. في قصته الأولى «لا تخفْ»، يوظف صابر رشدي السرد بضمير الغائب، وبما يتيحه من قدرة أشدّ على المباعدة بين الذات والموضوع، وبما يفتح أيضاً آفاقاً متجددة للتأمل والتساؤل على نحو ما صنع الكاتب في قصته: «أين تذهب أصواتنا بعد أن تخرج من حلوقنا وأفواهنا؟ أين تستقر هذه الكلمات؟ وفي أي مكان تتجمع دون أن تنهمر علينا مرّة أخرى مثلما يحدث مع المطر» (ص 8). وما بين الكشف عن نوازع الشخصية المركزية والتي كانت لمرويٍّ عنه غير محدد، وقد نكّره الكاتب وكأنه تمثيل للإنسان الفرد وأزمته في عالم مسكون بالهواجس، سمته الثأر والخوف من مجهول غامض ينتظر مصائر تعسة ومأساوية: «سيطرت عليه مشاعر الخوف والرهبة، وتملكه إحساس طاغٍ بأن هناك من ينوي افتراسه والفتك به تحت ستار هذا الضباب الكثيف» (ص 9). تتواتر النهايات ذات الطبيعة الآملة بالمستقبل، على نحو ما نرى في مختتم القصة الأولى، فهذه الأشعة التي تعدّ بمثابة «ضوء شفيف» ينتخبه الكاتب جمالياً، ويصدّر به عنوان قصته الثانية، والتي يتداخل فيها الحلم بالواقع، ويمثل الحوار جزءاً من الرؤية السردية داخلها. فتأتي النهاية موعودة بأمل مبتغى ومنتظر في آن. في «الرجل الذي اكتشف الطمأنينة»؛ ثمة أجواء من الفانتازيا تسلم إلى تخييل محض، وتصبح رحلة البحث عن النور غوصاً في داخل إنساني، أمانه في صفائه الروحي، وإشراقه وقدرته على مجابهة القبح، ولكن هل ثمة طمأنينة حقيقية أم أن العالم ابن أصيل لما هو نسبي ومتحول؟ تأملات وتفاصيل في «ساعة يد ثمينة»؛ نحن أمام حالة من التأمل للأشياء الصغيرة، ومحاولة أصيلة لتقليب الأمر على أكثر من وجه، في كتابة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة والدقيقة. ثمة استهلال سردي بديع في «ديالكتيك»، يتخذ من الحوار آلية له، فيبدأ متوتراً، مصحوباً بإجابات قدرية مستخدمة من الرجل لإقناع زوجته بترك رضيعهما وحيداً أمام أحد البيوت. ويبدو السارد هنا جزءاً من القصة، ومتورطاً في الحدث الرئيسي داخلها في شكل أو آخر. إنه يرقب ما يحدث، ويستمع إلى حديث الزوجين وهو بين الصحو واليقظة. في النص أيضاً مستويات أخرى من الصراع الجدلي بدأت بين الرجل والمرأة، ثم المخلوقات الغريبة التي أحاطت بالطفل، فضلاً عن السارد الرئيسي وصراعه الداخلي ومساءلته ذاته في عدم إسراعه لنجدة الرضيع. وتبدو النهاية مازجة بين الحلم والواقع، فالأبوان يعودان إلى مكان الطفل من جديد، والرجل ذو الملابس البيضاء يأخذه معه، والسارد الرئيسي لم يهنأ طويلاً بإنقاذ الطفل، ومن ثم يتهيأ لاستكمال المشهد عبر حلم جديد. في «ثعابين ملونة»؛ لم تكن الثعابين كتلة واحدة، ويبدو الكاتب معنياً باستقرائها لا لغاية فيها، إنما للوصول إلى نهايته المبتغاة، وبما يشعرك أن القاص هنا يبدأ النص ويتحرك به ساعياً إلى مختتمه الدالّ. أمّا في «الرومانسي الأخير»، فثمة نص بديع يعي بنية شخوصه النفسية، بحيث نرى حسرة الحبيب الناتجة من تصور رومانطيقي للعالم، لا يخلو من وعي غض، تخاطبه محبوبته: «كل شيء لك ولكن بعد الزواج»، ثم استجابت لأول عابر سبيل طرق بابها بجسارة افتقدها ذلك الرومنطيقي الأخير. تتوازى حالة اللعب والبراح في نص «الطيور» مع رغبة الشخصية المركزية في التحرر والانعتاق، أما في «شخص حزين يستطيع الضحك»؛ فيصبح الحزن معيشاً يومياً للشخصية المحورية في القصة، وفي» دروب» ثمة قدم موضوعة في الواقع، وأخرى ساكنة في الحلم، وما بينهما تتراوح حركة النص القصصي، ساعياً إلى التجريد والترميز في آن، مفسحاً للغة وإحالاتها مكاناً وسيعاً في الكتابة. ويجد قارئ قصة «إصبع على الزناد» أنّ ثمة يداً تقتل وأخرى ترسم الجمال، يداً للقنص وأخرى للرسم، وبما يحيل إلى الثنائية الشهيرة الحاضرة في أدبيات الكتابة الإنسانية، دالّة على التناقض الفادح الذي يملأ النفس البشرية. وفي «موت على الهواء»، نحن أمام خمسة مقاطع من المتعة الفنية، إذ يتجاور ضميران للحكي هما الغائب والمتكلم الذي يحضر للمرة الأولى في المجموعة، وفي المقطع الرابع من النص تحديداً، ثمة شخص مهووس بالشهرة، وبالأضواء المصاحبة لعالم استهلاكي محض. فتراه في مباريات كرة القدم، وفي جنازات المشاهير، ومع نجوم السينما، لكنّ أحلامه تتهاوى تماماً حتى يصير مجرد «كومبارس»، في السينما، فيتوازى ذلك مع دوره في الحياة، والذي ينتقل به إلى الحزب السياسي الكبير بشبكات مصالحه. وحينما يقدم في نهاية القصة على التقاط أهم صورة له في حياته مع الرئيس، متقدماً بطمأنينة زائدة وبسرعة شديدة، لا تخطئه الرصاصات المصوبة تجاهه فترديه صريعاً يسكن نص «نبوءة» يقين عارم يبدو نقيضاً لطبيعة الكتابة ذاتها، بوصفها وليدة التساؤل، وربما بدت الجملة الأخيرة في القصة، والتي تتلو عبارة «هي التي كانت ترفع كفيها إلى السماء بقلب خاشع وعين دامعة»، استطراداً مجانياً زائداً، يمكن حذفه بسهولة من دون أي خلل للمعنى: «هي التي كانت ترفع كفيها إلى السماء بقلب خاشع وعين دامعة. وتلح بالدعاء طويلاً حتى استجاب رب السماء، رب كل شيء مليكه والمتفضل علينا برحمته». (ص 73). في «غرفة أعلى البناية»، ثمة نص مسكون بالإشراق الروحي، وفي «من أنت؟» ثمة اقتراب من عالم مغاير، يحيلك على كرامات الأولياء والمتصوفة، ليس عبر وليّ معروف، ولكن عبر متسول يقف أمام باب مستشفى مسكون بالمرض والفقر والتعاسة. وبعد... تبدو مجموعة «شخص حزين يستطيع الضحك» مختلفة ومتجاوزة نصوص البدايات، عبر خبرة حياتية لافتة أضحت جزءاً من متن الكتابة ذاتها، وبنتاً لعوالم القص ذاته، ولآفاقه الإنسانية الرحبة والثرية.