تحت رعاية مولوية سامية انعقدت في الرباط خلال 12-14 الندوة الدولية «المغارب والبحر الأبيض المتوسط الغربي في العصر العثماني» التي استغرق الإعداد لها أكثر من سنتين بالتعاون ما بين المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب ومركز الأبحاث في التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول ارسيكا وبمشاركة واسعة لباحثين عرب وأتراك وأوربيين. وكان للحضور المميز لمركز «ارسيكا»، الذي يرأسه د. خالد ارن، أثره في إعطاء زخم غير مسبوق للقاء الذي تحول في بعض اللحظات الى توتر أكاديمي حول علاقة المغرب الأقصى بالدولة العثمانية. ففي الكلمات الافتتاحية للندوة تناول د. ارن العلاقات العثمانية المغربية عبر التاريخ وتمنى «إعادة النظر فيها وتقييمها من جديد في ضوء ما يكشف من الوثائق العثمانية» مع تأكيده أن «النظرة الموضوعية» في ضوء الوثائق العثمانية «ستساهم في توطيد العلاقات». وفي المقابل كان الباحث المغربي المعروف عبدالرحمن المودن يعبر عن وجهة النظر الأخرى بالقول إن المغرب «وان لم يكن جزءاً من الفضاء العثماني» الا انه تأثر بالمجال العثماني المجاور له. وبعد هذه الكلمات التي ألمحت الى موقفين مختلفين تم افتتاح المعرض الذي أعده مركز «ارسيكا» والذي تضمن وثائق عثمانية مختلفة تستعرض علاقات الدولة العثمانية مع المغرب الأقصى. ولفتت الأنظار الوثيقة الأولى التي كانت مؤشراً الى أهم ما دار في الندوة من نقاش حول هذا الموضوع الذي أثير لأول مرة في المغرب على هذا المستوى الاكاديمي: علاقة المغرب بالدولة العثمانية. وتضمنت الوثيقة رسالة مؤرخة في 7 آب (اغسطس) 1567 من السلطان العثماني سليم الثاني الى الامير السعدي عبدالمؤمن تفيد بعدم موافقة السلطان على تعيينه «حاكماً على فاس» (كما كانت الوثائق المغربية تسمي المغرب الأقصى) بدلاً من أخيه الحاكم عبدالله الغالب وذلك لأنه تم تعيينه من قبل والده السلطان سليمان القانوني. ومن الملاحظ هنا أن الرسالة كتبت بالعربية وختمت بما يوحي بهذه العلاقة التي كانت موجودة آنذاك: «هذا مرسومنا الشريف العالي السلطاني وأمرنا المنيف السامي الخاقاني ما زال نافداً ومطاعاً في المشارق والمغارب أرسلناه الى العلماء الفضلاء والصلحاء وجميع الأمراء والكبراء وأهالي الإسلام بإقليم فاس وديار مراكش وبلاد سوس وسائر توابع تلك الأرض المباركة». وقد سيطر هذا الموضوع على الجلسة الثانية للندوة «مغاربة وعثمانيون» سواء من خلال الورقتين الأويين للباحثة المغربية نفيسة الذهبي وللباحث في مركز الأبحاث فاضل بيات، أم من خلال المناقشات القوية التي دارت بعدها وحتى في الجلسات اللاحقة. ومع أن ورقة نفيسة الذهبي اعتمدت أساساً على الوثائق العثمانية التي نشرها بيات في كتابه «الدولة العثمانية في المجال العربي»، التي توحي بوجود تبعية مغربية للدولة العثمانية، إلّا أنها حاولت أن تخفف من الوجود العثماني في المغرب. فالتدخل العثماني الذي حصل في المغرب لم يصل في رأيها الى حد إلحاق المغرب بالدولة العثمانية، كما أن الحكام السعديين الجدد للمغرب وصلوا الى الحكم كمجاهدين ولذلك كان من الطبيعي أن يستنجدوا حين الحاجة بقوة إسلامية كبرى مثل الدولة العثمانية. أما فاضل بيات الذي جاء الى الندوة حاملاً وثائق عثمانية جديدة فقد ذكر أن ما معه من وثائق يدحض الرأي الشائع الذي يقول «إن المغرب هو البلد الوحيد الذي بقي خارج الحكم العثماني». ويوضح بيات هنا من أن الخلاف بين الاخوة السعديين عبدالله (الحاكم) وعبدالمؤمن وعبدالملك هو الذي قاد الى التدخل العثماني في المغرب. فقد لجأ الاخوان عبدالمؤمن وعبدالملك الى اسطنبول وطلبا من السلطان سليمان القانوني دعمهما مقابل إطلاق يد الدولة العثمانية في المغرب الا أن السلطان رفض ذلك ودعا الى المصالحة بينهما. ومع علم الحاكم عبدالله بذلك وقتل أخيه عبدالمؤمن انزعجت اسطنبول عندما تحالف الحاكم الجديد محمد المتوكل بالتحالف مع اسبانيا، وهو مادفع اسطبول الى الطلب من والي الجزائر العثماني رمضان باشا بتجهيز حملة عسكرية الى فاس لدعم الامير عبدالملك المطالب بالحكم، وهو ما تم بالفعل في 1575. وبالاستناد الى مالديه من وثائق وصل فاضل بيات الى القول انه ابتداء من حكم عبدالله الغالب كانت «الدولة العثمانية تتصرف وكأن المغرب تابع لها»، إذ بيّن أن الدولة العثمانية كانت تتعامل مع السعديين كما تتعامل مع الحفصيين في تونس والأشراف في مكة. وكان من الطبيعي أن «تستفز» ورقة فاضل بيات الباحثين المغاربة سواء من المختصين أم غير المختصين بالتاريخ العثماني. فقد وصفها الباحث المغربي حسن أميلي بأنها «نظرة عوراء» و «قراءة للتاريخ من مصدر واحد» داعياً الى الأخذ بعين الاعتبار أيضاً المصادر المعاصرة الأخرى من اسبانية وبرتغالية وانكليزية. وقد اعترف الاستاذ في كلية الآداب مصطفى الشابي بعفوية بأنه لم يسمع حتى الآن ولم يعرف «أن المغرب كان تابعاً للدولة العثمانية»، رابطاً ذلك بالصراع بين القوى الكبرى آنذاك الذي كان يدفع المغرب أحياناً الى التقارب والتحالف مع الدولة العثمانية «من دون أن يصبح تابعاً للدولة العثمانية». وقد تدخل لتهدئة النقاش مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب محمد قبلي الذي تمنى على المشاركين في الندوة عدم معالجة الأمور بتشنج وعدم إسقاط الماضي على الحاضر، مركزاً على تحديد مفهوم التبعية مابين شقه الدنيوي وشقه الديني. وفي هذا السياق تدخل الباحث المغربي جعغر السلمي مميزاً بين الهدايا التي كان يرسلها حكام المغرب للسلطان العثماني وبين الاتاوات، رافضاً وجود ارتباط مغربي بالدولة العثمانية حيث إنه «لم يكن يوجد بالمغرب لا راية عثمانية ولا عملة عثمانية». ومع أن هذه الندوة الدولية حفلت بأوراق قيمة كثيرة تجاوزت الثلاثين وتناولت الاقتصاد والعمران والمجتمع والعلاقة مع الآخر في حوض المتوسط، الا أن هذا الموضوع الذي أثير حول علاقة الدولة العثمانية بالمغرب بقي يفرض نفسه في المناقشات والكواليس حتى الجلسلة الختامية حيث تناولها من جديد بشكل هادئ المؤرخ المغربي عبدالرحيم بنحادة في ورقته «قضية الجزائر في العلاقات المغربية العثمانية». وكان من الواضح هنا أن مثل هذه الندوة الدولية كانت تحتاج الى ورشة تحضيرية حول العلاقة بين الدولة العثمانية والمغرب بالاستناد الى الوثائق العثمانية كي لا تسيطر «المفاجأة» على بعض المشاركين. أما وقد طرح هذا الموضوع على هذا المستوى فإن نشر أوراق الندوة وما فيها من وثائق عثمانية يفرض إعداد ندوة خاصة حول هذا الموضوع الذي لم يأخذ بعد حقه من البحث. * أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت - الاردن