بين وديان الآثار القديمة لحضارة سومر، ووسط هضاب تخفي بين أحشائها قصصاً وحكايات عن عشتار إلهة الحب والجمال، وتموز إله الخصوبة والنماء، تنتشر عصابات التهريب التي تهوي بمعاولها لاستخراج الكنوز وبيعها بنصف أثمانها. فقد باتت المواقع الأثرية مفتوحة أمام عصابات التهريب منذ اكثر من ست سنوات بعدما غادرتها بعثات التنقيب وحراسها مع دخول القوات الأميركية الى العراق، حتى بلغ ما استخرج منها اكثر من 100 ألف قطعة وفق إحصاءات دائرة التنقيب في هيئة الآثار العراقية. مهنة نبش المواقع يقول أحد مهربي الآثار، ويلقب ب «أبو الليل» وهو اللقب الذي يطلقه عليه تجار الآثار، انه عمل شريف مثل غيره من المهن. و «ابو الليل» يرى انه يسترزق مما تركه الأجداد له من كنوز، وأن تجارة الآثار افضل من الجلوس بلا عمل أو سلوك طرق أخرى. ويضيف: «نحن نقوم بالتنقيب عن الآثار وبيعها الى المهتمين، ولا نقوم بإتلافها كي يتهمونا بأننا نقوم بعمل مشين». ويؤكد «أبو الليل» ان غالبية صفقات بيع الآثار تتم في فنادق خاصة، مقابل مبالغ جيدة ترضي الطرفين. ويضيف: «نحن نعلم ان أسعار القطع أغلى بكثير مما نبيعها، لكننا لا نملك حيلة، لذلك نقوم ببيعها في شكل فوري لئلا نتعرض لمداهمة مفاجئة من الجهات الأمنية». وتؤكد الجهات المختصة ان غالبية عمليات نبش عصابات التهريب للمواقع الأثرية تتم بطريقة عشوائية، الأمر الذي يعوق عملية إرجاعها الى عصورها التأريخية، إذ تصبح عملية أرشفتها أمراً صعباً بعد استرجاعها. «إعدام» تمثال ويبدو ان حماية المناطق الأثرية في الجنوب اصعب بكثير من حماية أي مؤسسة أخرى بسبب موقعها البعيد من المدن وانتشارها في شكل أفقي على مساحات واسعة من الأراضي القروية والصحراوية، ما يجعلها فريسة سهلة لتلك العصابات. ويؤكد قيس حسن مدير التنقيبات في الهيئة العامة للآثار ان نهب الآثار في العراق ليس وليد المرحلة، إذ إن عمليات التهريب كانت تتم في شكل سري في السنوات الماضية التي سبقت دخول القوات الأميركية الى العراق والانفلات الأمني الذي أعقبها، لكنه يعترف بعدم انتشارها على نحو ما هي منتشرة اليوم بسبب العقوبات الشديدة على المهربين من جانب الحكومة في العهد السابق. ويضيف: «كان النظام السابق يطبق عقوبات قاسية بحق المهربين، ففي إحدى المرات تم الإمساك باثنين من المهربين حاولا تهريب رأس تمثال سومري كبير الحجم يعود تاريخه الى خمسة آلاف عام مضت من طريق شطره بآلة حادة الى أربعة أجزاء، فكانت عقوبتهم الإعدام بالآلة ذاتها التي تم تقطيع التمثال بها». ويقول ان الآثار في العراق تعرضت الى عمليات تخريب عدة منها ما تعرضت له آثار أور وسومر الجنوبية من خلال قيام النظام السابق بإنشاء مواقع عسكرية على مقربة من تلك الآثار، إذ تم بناء واحدة من أكبر القواعد الجوية في العراق بجوار آثار أور (15 كلم شمال غربي الناصرية)، على رغم ان تلك المنطقة تحتوي على أكثر من 16 مقبرة ملكية تعود الى السلالات السومرية الأولى وهي مصنوعة من الطين والفخار فضلاً عن قربها من بيت النبي إبراهيم. ويضيف: «قبل حرب الخليج الأولى تعرضت تلك الآثار للتخريب جراء التوسع في بناء المنشآت العسكرية، وعندما اشتعلت الحرب أتت الأضرار على بعضها في شكل مباشر جراء قصف قوات التحالف لمواقع الجيش العراقي». أما بعد سقوط نظام صدام، فقد أقامت قوات التحالف قواعد عسكرية جديدة على أنقاض تلك السابقة، وشقت الجرافات الأرض طولاً وعرضاً لإنشاء طرقات، فنالت المواقع الأثرية نصيبها من صواريخ الكاتيوشا وقنابل الهاون التي أطلقها المسلحون على قوات التحالف، ومنها موقع زقورة أور الذي يحوي أقدم آثار لمعبد مكتشف في التاريخ، لكنها تعرضت لأضرار بالغة تم اكتشافها بعد استلام الموقع من القوات المتعددة الجنسية». ويؤكد ان آثار سومر تمتد على مساحة مدن الجنوب وتتوغل في مناطق الأهوار حيث بقايا الحضارة السومرية، لكنها مواقع مكشوفة وبعيدة من أعين السلطات ومهملة من الناحية الأمنية بخاصة تلك الواقعة بين قصبتي الفجر والرفاعي جنوباً. ويضيف: «عندما عاودت الفرق الأثرية العراقية التنقيب، بدأت العمل في المواقع البعيدة التي تتعرض الى السرقات والعبث اكثر من غيرها، لكن لا تزال هناك عصابات تمارس نشاطها في الجنوب ومن الصعب السيطرة عليها». أما باحث الآثار العراقي جمال حسنين، فيقول ان بعض سكان البادية والمناطق القريبة من المواقع الأثرية يقومون بإجراء تنقيبات غير نظامية في مواقع أثرية تشبه التلال وتمتد لبضعة كيلومترات في الأماكن المعزولة ويطلق عليها السكان المحليون تسمية: «ايشان». ويقول: «ان تاريخ العالم القديم مدفون بأسره في جنوب العراق وهو يتعرض للنهب والتخريب في شكل متواصل على يد أولئك المخربين الصغار والكبار، وهناك مواقع أثرية مهمة تعود إلى 2500 سنة قبل الميلاد تعرضت للجرف المائي على الضفة الجنوبية لنهر الفرات، متأثرة بارتفاع منسوب المياه، وقد جرف قسم كبير من الآثار وتعرضت للكشف، ما جعلها تحت رحمة عصابات التهريب». تمثال سومري في حافلة وتؤكد دائرة الآثار والتراث استرجاع آلاف القطع الأثرية من مواطنين قاموا بشرائها بأثمان زهيدة من بعض ضعاف النفوس الذين استولوا على آثار المتحف عقب سقوط النظام، حيث تقوم الدائرة بمنحهم مكافآت مالية مقابل ذلك. ويقول محسن اسود وهو أحد صاغة الذهب في مدينة الكاظمية انه ارجع اكثر من 32 قطعة أثرية الى المتحف العراقي من طريق شرائها من إحدى النساء. ويضيف: «فوجئت بامرأة تعرض علي بعض التماثيل قالت انها تجلبها من ابن أختها الذي شارك في نهب المتحف، فاشتريتها وأعدتها الى المتحف العراقي، وبمرور الوقت عرفني أهل الكاظمية وأصبحت أشتهر بإرجاع الآثار، وفي يوم آخر حضر شاب وفي يده تمثال قال انه عثر عليه في سيارته، إذ تركه أحد الركاب ونزل من السيارة عندما لاحظ اقتراب السيارة من إحدى نقاط التفتيش خوفاً من افتضاح أمره، فأحضره الرجل بعدما سمع انني اشتري الآثار وأعيدها الى المتحف ولم يطلب ثمناً لذلك». وتشير الإحصاءات الرسمية لوزارة الثقافة العراقية الى ان من بين نصف مليون قطعة أثرية موجودة في المتحف العراقي، تعرضت قرابة 150 ألف قطعة الى النهب إبان دخول القوات الأميركية الى العراق، وتم استرجاع اكثر من 15 ألف قطعة. ولا توجد إحصاءات دقيقة حول كمية المنهوب من المواقع الأثرية، لكن الوزارة أكدت على لسان الناطق الإعلامي باسمها عبد الزهرة الطالقاني ان هناك اكثر من عشرة آلاف قطعة تم استرجاعها من الآثار المهربة من مواقع التنقيب، من بينها تماثيل صغيرة ومسكوكات ذهبية وأوانٍ فخارية وأختام أسطوانية. ويطالب وزير الثقافة العراقي ماهر الحديثي الحكومة العراقية بإيلاء المواقع الأثرية عناية أمنية اكبر ويقول ان عدم وجود حماية كافية للمواقع الأثرية هو السبب في تشجيع عصابات التهريب في السيطرة عليها.