في منطقتنا حيث العراق منها هو القلب، تدخلات عربية وإقليمية وعالمية، وصراعات عقائدية وعلى كل الصُعُد، قومية عرقية دينية طائفية. وعلى الحدود وشكل الدولة ونظام الحكم والحقوق والحريات، في الدولة الواحدة وبين الدول المختلفة، وكأننا في مخاض يُعسّر ولادة وينذر بمزيد من الحروب وتبدو نهايته بعيدة. ولكن هناك صراع رئيسي بين إمبراطورية غابرة تعمل على بعثها قوى قومية طائفية عقائدية متعصبة عمياء توظف الدين والمذهب، لا تتورع في سبيل تحقيق أهدافها من تدمير البشر والشجر وكل منجزات الإنسان المادية. وإمبراطورية فتية في طور التكون والصيرورة تتضح معالمها يوماً بعد يوم على رغم التلكؤ أو التراجع، ولن تستطيع أي قوة في الكون أن تردعها عن تحقيق مصالحها، مهما كان الثمن. منطقتنا عائمة على بحر من النفط، العمود الفقري لأي تشكل إمبراطوري استعماري استغلالي تسلطي، الاستيلاء أو السيطرة عليه أو إدارته خطوة نوعية نحو استكمال بنائها، تقدم أي مشروع سيكون على حساب الآخر وانحساره. بمعنى آخر، العراق ساحة لمشروعين متقاطعين والصراع تناحري قد يؤدي إلى إشعال المنطقة برمتها وإحلال الدمار فيها، وستكون شعوبها الضحية والقربان لتحقيق مصالح اقل ما يمكن أن يقال عنها، أن لا علاقة أو مصلحة لشعوب المنطقة بها. المشروع الإيراني قوامه تحالف إيران مع سورية، ومريديهم في العراق والخليج ولبنان وفلسطين واليمن والسودان وغيرها، وبقايا الأنظمة الشمولية. المشروع الأميركي مدعم بترسانة أسلحة لم يسبق لوجودها مثيل ولا نعرف عنها الكثير، ودخل قومي عملاق، وتقدم علمي هائل، ومؤسسات بحثية ضخمة، وهيمنة على منظمات دولية مالية وحقوقية، ومريدون في المنطقة والعالم. العراق هو قلب المنطقة لما يتميز به من موقع جغرافي، وحضارة عريقة، وتاريخ علماني قريب واحتضان للعلماء، وتنوع ثقافي قومي اثني ديني طائفي، وحوض نفطي باحتياطي كبير (ثاني أكبر احتياطي في العالم)، وطاقة بشرية زاخرة ومعطاء. وكي تمضي إيران بمشروعها التوسعي الإقليمي واستكمال برنامجها النووي عليها أن تعمل على إزاحة العقبة الرئيسة المتمثلة بالمشروع الأميركي في المنطقة، والبداية لا بد من أن تكون العمل على إفشال العملية السياسية في العراق بتوظيف نفوذها على بعض السياسيين وبعض المليشيات المتغلغلة في الأجهزة الأمنية والجيش والشرطة ودوائر الدولة، واستثمار تحالفها مع سورية لخروج الأميركيين من المنطقة، وبسط النفوذ والتمدد في العراق والخليج ولبنان وفلسطين، والمضي في البرنامج النووي لإحكام السيطرة. مطلب العراقيين الأول كان ولا يزال الأمن، الذي يعتبر أحد أهم الأسس الضرورية للاستقرار والبناء والتقدم وتكريس الديموقراطية الحقيقية وتفعيل الرقابة ومحاربة الفساد، ومنذ انتخاب السيد المالكي رئيساً للوزراء تحققت في هذا الاتجاه منجزات مهمة، منها: - محاربة المليشيات التي عاثت في وسط العراق وجنوبه فساداً وترهيباً وقتلاً، ففي البصرة وحدها قتل أكثر من ثمانين امرأة ومُنعت الأفراح والأعراس والسينما والمسرح والموسيقى والتنزه، وتم خنق الحريات مما جعل الحياة جحيماً لا يطاق، وبعد قيادة المالكي الحرب ضد المليشيات، تم تحجيم اغلبها وتنفس العراقيون في وسط العراق وجنوبه وبخاصة البصرة الصعداء، وحصل الناس على هامش من الحرية متأملين في المزيد منها في المستقبل. - تم تحجيم تنظيم القاعدة (دولة العراق الإسلامية)، التي كانت تتحكم في مناطق واسعة من ديالى والمنطقة الغربية والموصل، وتم تحرير الإنسان من أسوأ استبداد عرفه العراقيون بعد الاستبداد الصدامي، وهذا إنجاز يحسب لإدارة المالكي وتنظيم الصحوات. - جرت محاولات عدة لإنجاز مشاريع خدمات (كهرباء ماء مستشفيات مدارس بناء مساكن وصرف صحي وغيرها) ولكن تمت عرقلتها بسبب التجاذبات السياسية. اختراق المالكي للمحاصصة ومحاولة الخروج بالعراق من المأزق الطائفي وتبنيه النهج الوطني العقلاني والتبشير ببناء دولة القانون وانحسار الميليشيات واستتباب الأمن نوعاً ما، أدى إلى تعريض المشروع الإيراني للخطر لكون العراق هو إحدى الحلقات الرئيسية أو نقطة الارتكاز لهذا المشروع. إن هذا التحليل أو هذه القراءة يمكن أن تساعد في تفسير الانفجارات الكبيرة الأخيرة في بغداد، والتي وحدت العراقيين وبينت عمق التآخي، حيث اختلطت أجساد ودماء المسلم والمسيحي والسني والشيعي والكردي والعربي والتركماني وغيرهم في لوحة، تؤكد أن المستهدف هو العراقي بهويته العراقية. العراق في خطر وعلى المالكي تنشيط وتفعيل قائمة دولة القانون التي يقف خلفها أغلب مكونات الشعب العراقي الذي كفر بالطائفية والفساد ونبذ التخندق والتسلح وينتظر الخلاص والحياة في وطن حر في الدولة الحلم دولة القانون. وخلاف هذا يعني توسيع الخنادق وارتفاع جدران العزل وتكريس الانقسام واشتداد الصراع وضياع المستقبل والعودة إلى مربع صدام بإقامة دولة الاستبداد وإحلال الدمار بدل البناء.