لعلّ أسوأ ما تعيشه السّاحة السياسية الفلسطينية ذهنية المناكفة، والتي لا تسمح لأصحابها برؤية الوقائع والأحداث على حقيقتها، ومن خلال اتصالها بوشائجها وأسبابها والعوامل الموضوعية المؤثّرة فيها. هي ذهنية تقفز عن ذلك كلّه إلى ما تعتقد أنه الأهم: توظيف الحدث أي حدث في حروبها على الخصوم الفلسطينيين ليس إلا. أتذكّر كثيراً من تجليات هذه الذهنية ضيّقة الأفق عند استعراض بعض ردود الفعل الفلسطينية على إعلان الرئيس أبو مازن قراره عدم الترشّح للانتخابات الرئاسية القادمة، بسبب بات واضحاً للعالم كلّه ويمكن تلخيصه في عبارة مقتضبة تؤكد حالة الإحباط التي يعيشها ويعيشها معه الفلسطينيون من السياسة العالمية وبالذات سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية، خصوصاً بعد تنصّل الرئيس الأميركي باراك أوباما من اشتراطاته وقف الاستيطان والإقرار بحل الدولتين، ونكوصه للضغط على القيادة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات مع حكومة نتنياهو «من دون شروط مسبقة». كان حرياً بمن عنونوا بياناتهم بعبارة «سقوط محمود عباس» أن يحدّقوا في دائرة أوسع من تلك التي تعيشها خصوماتهم المزمنة، فالسقوط إن وقع هو سقوط للمشروع الوطني الفلسطيني برمّته، وليس سقوط شخص مهما تكن مرتبته القيادية. ومع أننا لا نميل لاستخدام مفردة السقوط بسبب من بعدها عما حدث، نشير لاستعصاء حلّ الدولتين الذي ظلّ طيلة أربعة عقود من الكفاح الوطني الفلسطيني برنامج منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، ولم يكن برنامج شخص أو فصيل بالذات. إنه البرنامج الذي حمل شعاراته الرئيس الراحل أبو عمار في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خريف عام 1974، ثمّ عزّزه في «إعلان الاستقلال» الذي أطلقته دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر عام 1988، والتي منحت فلسطين أوسع اعتراف دولي لم يكن ليتحقق من دونه، ومن دون ارتباط الكفاح الفلسطيني بقرارات الشرعية الدولية. لقد ظلّت السياسية الفلسطينية على مدار العقود الأربعة الماضية تبحث عن الحلّ العادل ولو بالحدود الدنيا من العدالة إيماناً من القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة والرئيسة بأهمية تحقيق الكيانية الوطنية في إطار دولة مستقلّة للشعب الفلسطيني تعيده إلى الجغرافيا التي بدّدتها نكبة العام 1948، ولم يكن ذلك حلم رجل أو قائد بالذات قدر ما كان ولا يزال حلم شعب بأكمله انطلاقاً من الرّغبة الموضوعية في استعادة وحدة الشعب على أرضه وتمكينه من التعبير عن هويته ووجوده الوطنيين. ذلك بالتأكيد هو الحلم الذي يستعصي بفعل طغيان الانحياز الأميركي لحكومات الاستيطان الإسرائيلية المتعاقبة، وأيضاً بفعل حالة الوهن والتبدّد العربية التي تفقد الكفاح الوطني الفلسطيني أي إسناد جدّي، ثم لكي لا ينسى أحد بفعل حالة الانقسام والتشرذم والانحدار التي تعيشها الساحة السياسية الفلسطينية بكل تعبيراتها، من دون أن يدفن أحد رأسه في الرمال مستثنياً نفسه وحزبه، كما يبدو حتى اللّحظة من تلك التصريحات التي تغرق ويغرق مطلقوها في الوهم باعتقادهم أن أبو مازن يعيش في مأزق فيما هم تنفتح أمامهم أبواب النجاح والتقدم! ثمّة حاجة فلسطينية باتت ملحّة للخروج من دوائر منطق المناكفة وإدراك أن المعركة من أجل تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى تحتاج مفاهيم مغايرة، بل وذهنية سياسية مغايرة تعرف بجدارة كيف ترى التخوم الفاصلة بين الخلافات «المحلّية» وبين التناقضات مع معسكر الأعداء، فهذه لا تشبه تلك ولا تلتقيان. نقول ذلك وفي البال أهميّة أن تنعقد قمّة عربية طارئة يضع العرب خلالها النقاط على الحروف: ما هو مصير المبادرة العربية في مواجهة السياسة الأميركية؟ وكيف يمكن لنا كعرب أن نخرج من حالة اللافعل الرّاهنة إلى استشراف أفق جديد؟. أما غير ذلك فليس إلا مناكفات صبيانية لا تضرّ أحداً وإن تكن لا تنفع أصحابها أيضاً. * كاتب فلسطيني.