ليس هنالك حدث عربي استثنائي مؤخّراً، ما خلا أن المصالحة الفلسطينية قد تأجّلت بسبب أو بذريعة موافقة السلطة المتهورة على تأجيل بحث تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف لمدة ستة أشهر - واستدركت ذلك فيما بعد -؛ وتشكيل الحكومة اللبنانية ما زال معطّلاً ولأربعة أشهر بذرائع سطحية لا ترتقي إلى أهمية وجود حكومة لدولة وشعب يأبه بوجودهما جسم سياسي عينه في مكانٍ وظهره في مكانٍ آخر؛ وهنالك حربٌ في اليمن تتشكّل طائفياً، والناس في حيرةٍ بين هجوم ثوري طائفي يضع رأسه في مقابل مفهوم الدولة، وحكومة تقمع وتضرب بشراسة وعنفٍ يولّد الشكَّ لدى الكثيرين بأنها لا تبغي إلاّ تعميق احتكارها للسلطة بحيث يمكن توريثها أخيراً؛ ورئيس في تونس يرشّح نفسه للمرّة الألف من دون توقّف أو التقاط أنفاس بعضها للحرية وبعضها الأقل للتداول السياسي، بل الإنساني؛ وأشياء أخرى في مصر والعراق وسورية وغيرها يمكن أن يُقال فيها الكثير، على رغم أن معظمه أصبح تكراراً يظنّ البعض أنه لا ينفع ولا يفيد... بل لا يتوجّب. في كلّ ذلك هنالك قضية. عزة الأمة، أو الكرامة الوطنية، أو الإصلاح الذي يصرّ عليه أيّ رئيسٍ أوانَ الترشيح، أو وحدة الوطن والدفاع عن الدولة عند الرئيس اليمني (وغيره)، أو المقاومة المطلقة في لبنان (وغيره)، أو تحويل قضية التحرير إلى يدِ من هو جدير بها في غزة (وغيرها)... كلّها هي القضية، أو أن القضية كلّها. القضية هي «القضية». وليس معروفاً- لديّ على الأقل - من أين جاءت هذه الكلمة - المفهوم / المصطلح إلى لغتنا المقدسة. فلم أصادفها في هذا المعنى والاستخدام في القراءات العربية الأثرية، وإن كان ذلك صحيحاً، فلا أعلم من قام بنحتها عن اللغات الأوروبية. ما أعرفه هو أن هذه الكلمة لا تعني في ذاكرتي، أو في ترتيب نتائج محرّك البحث «غوغل»، إلا القضية الفلسطينية. وإن كان للمرء أن يتحدى السائد ويتحمّل وزر أفعاله، فلا بدّ أن يذهب إلى عقر الدار، وهو حتماً في فلسطين. تلك التي اعتُبرت طريق النهضة والتوحيد والتحرّر، وذاب في حرارتها، وما زال يذوب، مناط التنوير والحرية والديموقراطية والدولة الوطنية والمواطنة، وانحلّ الأوكسجين من الهواء. لا بدّ إذاً أن الذي فاقم هذه القضية هو عدوّ ذلك كله. فهل هو البعبع الذي يمكث ويتربّص في الخارج، أم نحن الملائكة المظلومون الأبرياء، الذين لا حول لنا ولا قوة، نخباً سياسية وثقافية، سلطاتٍ ومعارضات، طبقاتٍ سائدة وأخرى مقهورة وعاجزة؟ أم أن «القضية» تحوّلت إلى قيدٍ وتابو، يحجب ويمنع الرؤية السليمة، ويشلّ العقل والأيدي، ولا يترك إلا لبعضنا رجليه ليولّي الفرار ويخرج من دائرة العقم والعتمة؟ لقد بنى أنور السادات خطوته الكبيرة على أن قسماً من الناس عنده قد أتخمته القضية، ثمّ جاءت «الصحوة الإسلامية» لتقاوم في البدء، ثم لتزدهر على مياه الثورة الإيرانية، ثم على حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي حتى تأسيس أول أمارةٍ للقرون السالفة، وحتى غزوة نيويورك في 11/9/2001... جاء ذلك كلّه ليضمن للقومية ظهوراً جديداً، ليس قومياً بكلّ المعاني القديمة التي كان متعارفاً عليها. حقق ذلك ازدهاراً «لاهوائياً» من نمط حياة تلك الكائنات الدقيقة التي تتكاثر من دون تنفّس. استطاعت حماس؛ بدعم إقليمي ومن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ومن «الجماهير» العربية العطشى المهانة؛ وباستنادٍ إلى التفسّخ في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ أن تقدّمَ نفسها مرشّحاً لتمثيل القضية، وأن تحيلها، من ثمّ، إلى دركٍ أدنى بوضوحٍ من السابق. فالقضية ترتبط أول ما ترتبط كمفهوم بالواقع والإنجاز الملموس، ومن هذين المنظورين يمكن الحكم على وضعها وآفاقها. خارج ذلك، انتصرت «حماس» وحلّقت، ومن هنا يرى الكثيرون في هذه الحالة صحوة للكرامة وإشباعاً بإزعاج الخصم، وانتصاراً للعقيدة. يتمّ ذلك من دون الانتباه إلى طبيعة هذا الخصم وتحولاته من موسم انتخابي إلى آخر، وإلى كونه أساساً لا يبالي بامتشاق السيف والتطرف والاعتداء، معتمداً على مخزونٍ من دعم الغرب وتفهمه لقرنٍ كاملٍ من الزمان. ويتم ذلك خارجَ بطبيعة التغيّرات الكبرى التي مرّ ويمرّ فيها العالم. في حين نخسر نحن حصيلة جهدٍ استمرّ ستين عاماً على الأقل، لم نستطع فيها إلا تحويلاً جزئياً للرأي العام وللقوى المؤثرة، لا يتناسب مع ما ضاع من عمر شعوبنا، وكان على حساب تقدمها في النتيجة. يتعلّق هذا التحويل خصوصاً بأن للفلسطينيين حقاً مشروعاً، وبأن إسرائيل يمكن محاسبتها على أعمالها بعد أن كانت لا تُمسّ، وبفتح بابٍ للتوصل إلى هذه الحقوق من خلال المفاهيم المدنية ومسألة حقوق الإنسان وتظهير الجرائم الإسرائيلية على أساس القانون الدولي. من دون مثل ذلك، يرى الكثيرون الآن أن الثمن الذي دفعناه منذ 1948 يفوق كثيراً ما تحقق، ومعه قد ينجرّ بعضنا إلى الكفر بالقضية واستبعادها جانباً والإسهام في ظلم جديد أهلي على الفلسطينيين. لكن الثابت هو أن في هذه القضية التباساً مهماً في الأصل، جعل منها حجاباً لحماية الأنظمة المستبدة، ومصرفاً غير مضبوط ولا مبرمج للثروة الوطنية يمتصّ مصادر التنمية الشاملة ويدعم تلك الخاصة بالفئات السائدة، وأداةً إيديولوجية لنفي السياسة من داخل المجتمعات إلى خارجها، وعائقاً أمام قيام الدول الوطنية على أساس مدني حديث ومعاصر. وآن للقضية أن ترجع إلى نصابها الرئيس هذا، فمن دون ذلك لا قضايا، ولا يحزنون. في حين أصبح مثيراً للدهشة والعجب، أن يصرّ البعض على اعتبار مركزة القضية الفلسطينية فعل إيمان، وغير ذلك فعل كفر. وليست بمسألة إيمان ولا طهارة ولا عقيدة، كما أنها ليست مسألة كفر وخيانة، بل هي حقوق وطنية يجب تحصيلها، ومصلحة مباشرة، في سياق مشروعٍ كبير لا ينتهي بعد أن يبدأ، ولا يتوقف إلاّ لمتطلبات خارجة عن الإرادة، وخارجة من التاريخ، وعلى القانون. * كاتب سوري