من يعرف شكيب الجابري جيداً لا بد من ان يلاحظ ان سيرته الذاتية الملحمية لا تقل خطورة في معنى الممارسة الوجودية لحياة الكائن البشري عن رواياته الأربع، فهو مثلاً دكتور في العلوم ومهندس في الكيمياء والتنقيب عن المعادن، تخرج في جامعات جنيفوبرلين، وكانت شهاداته تلك تنبئ بأن سيرته ستنحصر في مجاله الاختصاصي كعالم ومهندس نابه. إلا ان مزاياه الشخصية كشاب وطني خبر الحياة بكل أبعادها في بلده الذي كان يرزح تحت الاحتلال الفرنسي - المسمى انتداباً - كما في أوروبا كطالب علم ومناضل وطني، رشحته الى خوض الحياة خارج اختصاصه العلمي بنجاح حين ترأس جمعية الطلاب العرب في بلاد الغربة وإلى أن اصطدم بقوى الانتداب وهو بعد ما زال طالباً يقضي عطلته الصيفية في بلده من خلال مشاركاته في التظاهرات الوطنية فيتعرض للاعتقال والسجن، وبالتالي الى تعطيل دراساته أكثر من مرة وأن يصاب بكسور في جمجمته وجروح في جسده كادت تودي به. وكان عليه ان يخوض بعد تخرجه ميادين الإدارة والإنتاج في عدد من الوظائف العالية التي أُسندت إليه في مجالات الإعلام ومراقبة إنتاج الشركات وفي التمثيل الديبلوماسي لبلاده في البلاط الإيراني الشاهاني ثم سفيراً في أفغانستان. حياة صاخبة عامرة بالأحداث رشحته مرة بعد مرة لمناصب رفيعة اعترضتها ازمات كبرى إذ ابعد من وطنه في احد العهود، ثم عاد إليه في عهد آخر، غير ان كل هذه التحولات لم تمنعه من ممارسة هوايته في الكتابة وخاصة في إبداع القصص والروايات. غير انها هواية لم تكمل مسيرتها كما كانت توحي بشائرها وإصداراتها إذ طغت عليها هوايته الرائعة في إحياء الطبيعة الخضراء حين اشترى هضاباً صخرية في شرق «الزبداني» - غرب دمشق - وبنى فوقها منزلاً عجيباً يمكن وصف طرازه كصديق للبيئة - لم ينجزه كاملاً للأسف - سماه قلعة «الكوكو» والكوكو طائر نادر في المنطقة، وأحيا حوله سلسلة من الحدائق التي اصبحت الآن احد المعالم الإعجازية في إحياء الطبيعة الصخرية وصارت مع المنزل الطريف مزاراً شهيراً لسكان المنطقة والسياح الأجانب والعرب. ولد شكيب الجابري عام 1912 في حلب، وأسرته «الجابري» اسرة عريقة في البلاد، ومات في دمشق عام 1996 تاركاً وراءه كل ما ذكرنا. وهكذا يبدو لمن يريدون ان يعرفوه جيداً انهم مطالبون بمتابعة حياة حافلة مديدة، غير اننا سنقصر حديثنا على أعماله الروائية الأربعة (صدرت كاملة عن الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية 2009)، لعلها تغري قرّاءه بزيارة قلعة «الكوكو». إنها روايات أربع إذاً: «نهم» (1938)، «قدر يلهو» (1941)، «قوس قزح» (1942)، «وداعاً يا أفاميا» (1960). لا شك في ان الجابري بهذه الروايات الأربع يمكن وضعه بجدارة في صدر قائمة الروائيين العرب الرواد، ليس بالمعنى التاريخي فحسب بل بالمعنى الفني للكتابة، إذ يكفي كي ندرك ذلك ان نقارن بين رواياته الثلاث الأولى وبين إصدارات نجيب محفوظ الذي تأخرت مشاركته في الرواية الاجتماعية - بعد بداياته التاريخية - الى منتصف الأربعينات في حين ان رواية «نهم» صدرت في أواخر الثلاثينات وكان لصدورها تأثير بالغ في الشارع الثقافي العربي كما حدث للروايتين الصادرتين بعدها مباشرة. تبدو روايته الأولى «نهم» وحيدة فريدة حقاً في سياق إنتاجه العام شكلاً ومضموناً إذ يمكن ان ننسب الروايات الثلاث الأخيرة الى خانة الرواية الاجتماعية ذات النزعة الرومنطيقية - القومية في حين تنفرد «نهم» كرواية اجتماعية ولكن لا علاقة لها إطلاقاً بالرومانسيات ولا بالنزعات الوطنية أو القومية، ذلك انها تعالج موضوعاً طريفاً يدور حول علاقة الذكورة بالأنوثة من خلال حياة شاب وسيم مغامر - من اصل قوقازي - يتنقل بين البلدان الأوروبية من علاقة غرامية الى أخرى منهياً إياها عبر مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات مع الجمهورية الديموقراطية ضد الطغيان العسكري الديكتاتوري للجنرال فرانكو. رواية تمجد العلاقة بين الذكر والأنثى لا كقصة حب بين طرفين لا يتغيران مثل قصص الحب الشهيرة بل كقصة حب بين رجل لا يشبع من النساء الجميلات ولا تمتنع الجميلات عنه بالمقابل أو لا يقدرن على مقاومة جاذبيته. رواية تذكّرنا بالمغزى النفسي أو الإنساني العميق الذي طرحه «أناتول فرانس» في روايته المشهورة «تاييس»، إذ يقول مؤلفها في تصديرها «إن الحب هو سر الكون» وكأنه يبرر التحولات التي قلبت الراهب الناسك الذي حاول ان يلعب دور المرشد للغانية الفائقة الحسن «تاييس» فتحول الى عاشق مذنب بها فيما بعد، غير ان قيمة العمل في «نهم» لا تنحصر في الإثارة التي يحفل بها موضوعها بل في طريقة العرض ايضاً التي تفاجئ القارئ بأسلوبها القائم على الرسائل أكثر من السرد المباشر وهي طريقة جديدة على الصياغة الروائية العربية المتداولة عهدئذ، ولا تخلو الروايتان التاليتان من هذا التجديد، إذ يستخدم الجابري اسلوب المذكرات ممزوجاً بالسرد المباشر والمناجاة في سياق عاطفي رومانسي متأجج بنزعيته العاطفية والقومية على حد سواء حول قصة حب بين طالب عربي يدرس في برلين وشابة ألمانية فقيرة، تنقطع في «قدر يلهو» بعودة الطالب الى وطنه. وتستعاد الحكاية ذاتها في الرواية التالية «قوس قزح» ولكن من زاوية أخرى مقابلة اي من خلال الرؤية الذاتية للعاشقة الألمانية للأحداث نفسها اولاً ثم للأحداث الأخرى التي نجمت عبر سفر العاشقة الى موطن حبيبها كي تعمل راقصة في احد ملاهي بيروت املاً بلقاء الحبيب الذي اجتمع بها فعلاً ولكن مرضها المستفحل بالسل قضى عليها على رغم كل الجهود التي بذلها العاشق لإنقاذها. وفي الرواية الأخيرة «وداعاً يا افاميا» يعود شكيب الجابري الى سيرته الذاتية يغرف منها حكاية تعبّر بوضوح عن نزعة الكاتب القومية من خلال قصة البعثة الأثرية الأجنبية التي كانت تعمل في منطقة «أفاميا» شمال سورية وما جرى للفتاة البدوية الجميلة «نجود» العاملة مع البعثة بعد اعتداء أحد اعضائها عليها فتضطر للهرب خوفاً من انتقام العشيرة ولا ينقذها إلا لقاؤها بمهندس سوري شاب كان يعمل في التنقيب عن المعادن في غابات السحل السوري فأحبها وأحبته وكانت الخاتمة نهاية سعيدة لم تعرفها الروايات السابقة. في هذا العمل ايضاً، نرى الجابري يمزج بين السرد المباشر والمناجاة والشعر احياناً عبر أسلوب متماسك ناضج كان يوحي بأن الكاتب وقد ازداد نضجاً انه سيتابع هوايته الإبداعية - الأدبية، ولكن هيهات فقد جرفته مشاغل الحياة العاصفة التي عاشها وكادت تودي به فإذا به ينقطع عن الكتابة الروائية الى المحاضرات والمقالات وقد شغلته هموم اخرى لا تقل خطورة وتأثيراً عن إبداعاته الأدبية. ليس هدف هذا الحديث تقديم دراسة متكاملة عن شكيب الجابري وإنما هي مجرد صيحة تنبيه لأهمية إحياء الذاكرة الوطنية باستمرار من خلال النشاطات المختلفة لأجيالنا الصاعدة ليس في مجال الأدب وحده بل في مختلف مجالات الإبداع الإنساني، وما أكثرها! وما أشد حاجتنا إليها!