كانت سمعة الطبيب السوداني ولا تزال في أفضل حالاتها لدى العرب والعجم، ويندر أن تذهب إلى مؤسسة علاجية في أرجاء الخليج العربي ولا تجد طبيباً سودانياً. وفي بريطانيا وحدها يعمل نحو أربعة آلاف طبيب سوداني في بقاع المملكة المتحدة. يتولى بعضهم مراكز رفيعة على الصعيدين الاختصاصي والاستشاري. وبلغت ثقة البريطانيين – خصوصاً الجيلين الأول والثاني من أبناء وأحفاد الاداريين والمعلمين البريطانيين الذين عملوا في السلطة الاستعمارية التي حكمت السودان من لدن استعماره في عام 1898 حتى استقلاله في عام 1956 – درجة من اعتماد الاطباء السودانيين قرروا معها إجراء امتحانات الزمالة البريطانية في عدد من فروع الطب في السودان، وليس في المملكة المتحدة. وهو من دون شك إنجاز كبير للطبيب السوداني الذي كان من أجل نيل تلك الزمالة يشقى في تدبير سبل الابتعاث والبحث عن عمل في بلاد تموت من البرد حيتانها، كما قال الأديب الكبير الراحل الطيب صالح، وكان بعضهم يضطر إلى العمل في درجات وظيفية متدنية أثناء فترة تحصيله لاجتياز الاختبارات الصارمة اللازمة للتأهيل الطبي في انكلترا. فجأة أوكلت هيئة التعليم الطبي هناك مهمة تقويم شهادات خريجي كليات الطب الأجنبية إلى مؤسسة مستقلة. أضحى النظام أن يتقدم الطبيب الأجنبي بشهاداته الأكاديمية أول الأمر إلى تلك المؤسسة، فتنبري لتقويمها، وتكتب بذلك للسلطات البريطانية. هل يتصور أحد أن السودان يمكن أن يكون «ضحية» مفاجأة من هذا العيار الثقيل؟ ذلك هو ما حدث حقاً. فقد اكتشفت تلك المؤسسة أنه لا يوجد قدر كافٍ من المعلومات عن مستوى كليات الطب في الجامعات السودانية، خصوصاً أن أرشيف الأخبار العالمية يحفظ للسلطات السودانية خروج وزير تربيتها مطلع التسعينيات ليتخذ قراراً «عنترياً» بإلغاء تعليم اللغة الانكليزية في مدارس التعليم العام، وإرغام الجامعات على تعريب مناهجها في غالبية الكليات والمعاهد العليا. وبشيء من التقصي أحيط البريطانيون بأن وزيراً عنترياً آخر قرر أن يحل مشكلة التعليم في السودان بتغيير السلم التعليمي الذي كان يستغرق 12 عاماً في ثلاث مراحل (ابتدائية ومتوسطة وثانوية) إلى نظام يستغرق 11 عاماً في مرحلتين، الأولى تدمج الابتدائية والمتوسطة في ثماني سنوات، ثم الانتقال إلى الثانوية لقضاء ثلاث سنوات، يتأهل الطالب بعدها لدخول الجامعة. تمسك البريطانيون بأن قرار التعريب وتقصير السلم التعليمي سيأتيان إلى الجامعة بطالب لم يتأهل بما فيه الكفاية لتكتمل قدرته على التحصيل في المستوى الجامعي ثم المهني، والأدهى أنه يأتي إلى الجامعة وهو لا يعرف لغة مراجع الطب وكتبه الأمهات.وكانت المواقف السياسية للحكومة السودانية عاملاً مؤثراً في قرار الخرطوم وقف الابتعاث إلى بريطانيا، في سياق سياسة توعدت فيها الولاياتالمتحدة بأنها «قد دنا عذابها»، وعصفت بمجمل العلاقات مع الجيران و«الأبعاد». بيد أن أساتذة التعليم الطبي في السودان قرروا التدخل بصفاتهم المهنية والتربوية لدى السلطات البريطانية، بملفات تشرح حقيقة وضع التعليم الطبي، ومستوى الرقابة والإشراف عليه، ومدى التزامه بمعايير الجودة العالمية السائدة. وفجأة نسي الأطباء السودانيون خلافاتهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية ووقفوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار صفاً واحداً خلف لجنة اختاروها من أساتذة أطباء الداخل وقادة اتحاد الأطباء السودانيين العاملين في المملكة المتحدة. سلمت اللجنة السودانية مؤسسة تقويم شهادات التعليم الطبي في بريطانيا ملفات تشرح مقررات كل من كليات الطب ال26 العاملة في البلاد، ونظم الرقابة على مستوى التعليم الطبي، وآليات تدريب طلاب كليات الطب، واتضح من خلال تلك الملفات أن قرار التعريب كان «دون كيشوتياً» فحسب، إذ استحال على الجامعات التي بدأت أكبرها التعليم الطبي على يد البريطانيين منذ العام 1924 (كلية الطب في جامعة الخرطوم). واتضح أن طلاب الطب الذين تضرروا أصلاً من القرار المذكور أثناء سنوات تعليمهم الإعدادي العام يضطرون لإخضاع أنفسهم لدورات مكثفة لتعلم الانكليزية، لأن أساتذتهم لا يتساهلون في الاختبارات النظرية والعملية. وشارك في ذلك الجهد الشاق «المجلس الطبي السوداني» المكلف قانوناً بمراقبة مستوى التعليم الطبي في البلاد، إلى جانب مهماته الأخرى، كاعتماد شهادات الطب ومراقبة السلوك المهني والأخلاقي للأطباء. كان جهداً خارقاً، بل «ملحمة» بعدما انتهت آخر «ملحمة» صِدام بين الجانبين في عام 1953، بقبول بريطانيا منح السودان حق حكم نفسه ذاتياً، وهو ما مهد للاستقلال في 1956، وبعد بضعة أشهر من المواجهة بين الجانبين، أعلنت المؤسسة البريطانية أنها قررت العدول عن قرارها الهبوط بمستوى بكالريوس الطب السوداني إلى درجة «الدبلوم»، وأعادت الاعتبار إلى شهادة الطب السودانية، لكن تلك البسالة التي هم بها جديرون لا تعني أن خطر القرار البريطاني غاب إلى الأبد، إذ تمضي السنوات والحكومة لا تريد أن تتراجع عن محاربتها للغة الانكليزية، وتزيد «مفاعيل» القرار محنة العملية التعليمية، وتُخِلُّ بترابط حلقات التعليم العام والعالي. وقد يُسكبُ في وصف تلك المحنة وتعديد أسبابها وتبعاتها حبر العالم كله، لكننا نختزلها فحسب في النتيجة الأهم: ستظل المدارس العامة ترفد التعليم الجامعي والعالي بعناصر غير مكتملة الإعداد، ولن يكون ثمة مناص من أن يكون لذلك تأثيره في السلسلة التعليمية المترابطة، وما يفضي إليه من ضعف في تأهيل الخريج الجامعي السوداني في الكليات العلمية والتطبيقية.وفي سياق البحث عن حلول إسعافية طويلة المدى، قرر الأطباء السودانيون الاستعانة بزملائهم أساتذة التعليم الطبي البارزين من السعوديين لتقديم النصح، وعرض السبل الكفيلة بضمان الحفاظ على مستوى الكليات الطبية، تأسياً بتجربة السعودية في التعليم الطبي، وهي تجربة ساعد على إنجاحها إغداق الدولة السعودية الدعم على كليات الطب، وما لم تتصرف الدولة السودانية بطريقة مماثلة فإن الحال المائلة لمؤسسات التعليم العالي، خصوصاً الطبية، ستواصل الانحدار حتى ينهض البريطانيون مجدداً لإحالة شهادة الطب السودانية إلى التقاعد بعد 85 عاماً حفلت بالنوابغ في كل التخصصات. * من أسرة «الحياة».