ستقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة بتحديد السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري موعداً للنظر في تقرير غولدستون. ويعكف، في شكل رئيسي، ممثلو مصر والسودان وسورية والسلطة الفلسطينية على إعداد مشروع قرار للتصويت عليه في الجمعية العمومية. والمطلوب من مشروع هذا القرار تلافي «الأخطاء» التي تضمنها قرار مجلس حقوق الإنسان في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بما فيها تلك التي قد تكون السلطة اضطرت إليها بفعل التأجيل. وهو ما لا يتم إلا بالاقتصار على الجوهري في تقرير غولدستون. فالقرار السابق دان بشدة الإجراءات الإسرائيلية التي تقيّد وصول الفلسطينيين إلى ممتلكاتهم وإلى الأماكن المقدسة؛ وانتهاكات حقوق الإنسان في القدسالشرقية، وتحديداً مصادرة الأراضي وهدم البيوت. وكذلك بناء المستوطنات وتوسيعها واستمرار العمل في بناء جدار الفصل العنصري، بالإضافة إلى التذكير بأعمال الحفر المستمرة حول الأقصى والمطالبة بوقفها. على رغم صحة كل هذه الممارسات الإسرائيلية، المدانة على كل المستويات، لكنها لا علاقة لها بتاتاً بتقرير غولدستون الذي يقتصر موضوعه على «تقصي الحقائق أثناء الحرب في نهاية 2008 ومطلع 2009 داخل غزة وجنوب إسرائيل». لقد خرج القرار عن موضوعه بعرضه لهذه الممارسات والمطالبة بوقفها، مما فتح الباب واسعاً أمام المبعوث الأميركي، دوغلاس غريفث، ليصوت ضد القرار. وبرر موقفه بالقول: «إن هذا القرار يتجاوز تقرير غولدستون ليناقش أموراً ينبغي حلها في سياق مفاوضات الوضع الدائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين». وكلامه صحيح طالما أنه لا علاقة بين ممارسات الجيش الإسرائيلي التي انتهكت القانون الدولي أثناء حرب غزة، باستهدافها المدنيين من خلال ما بات يعرف ب «تكتيك الضاحية» واستخدام الفوسفور الأبيض، وبين انتهاك إسرائيل المستمر لبنود أخرى من القانون الدولي منذ 1967، هذه التي تتجلى ببناء المستوطنات وتوسيعها وهدم المنازل... إلخ. كما توصل تقرير غولدستون إلى «أن الجيش الإسرائيلي وحماس وغيرها من المجموعات الفلسطينية المسلحة في غزة قاموا بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وللقانون الإنساني الدولي، بما فيها على الأرجح جرائم حرب ضد الإنسانية». ومع ذلك، فإن قرار مجلس حقوق الإنسان دان إسرائيل وحدها، ولم يتطرق إلى حماس بتاتاً. وهذا ما حدا بغولدستون إلى القول، حتى قبل التصويت، «إن مشروع هذا القرار يحزنني لأنه لا يتضمن سوى اتهامات ضد إسرائيل، وليس فيه عبارة واحدة تدين حماس مثلما فعلنا في التقرير». أما بعد التصويت فتلقفت البرافدا الروسية هذه «الثغرة» وركزت الضوء عليها بمانشيت عريض «إقرار تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وغض النظر عن جرائم حماس». وقد عبّرت منظمة العفو الدولية عن أساها مما حصل بالقول: «يتحدث القرار عن انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، لكنه في الوقت الذي يدين «كل استهداف للمدنيين» فإنه لا يذكر صراحة انتهاكات حماس والمجموعات الفلسطينية الأخرى». هذا «الخطأ» الشنيع لا بد من إصلاحه في مشروع القرار القادم: يجب أن يدين حماس أيضاً، وأن يطالبها بمثل ما يطالب إسرائيل. وعدم القيام بذلك يعني عملياً دفع المجتمع الدولي إلى عدم إدانة إسرائيل. فهو يعتبر حماس منظمة إرهابية، ورأى تقرير غولدستون ارتكابها جرائم حرب، ويطالبها كسلطة أمر واقع بالتحقيق مع مرتكبيها. وعندما يقوم قرار الجمعية العامة بإدانة إسرائيل واستثناء حماس، من الطبيعي أن يتعامل معه كقرار منحاز ضد إسرائيل... وسيكون منحازاً فعلاً. معلوم أن الجمعية العمومية كالفاتيكان، سلطتها أدبية. أما صاحب السلطة الفعلية فمجلس الأمن، التابع لها شكلياً. وليس من صلاحياته إصدار قرارات تتعلق بالأفراد، وإنما بالدول. أما الجهة المخوّلة بملاحقة مجرمي الحرب، ف «محكمة الجنايات الدولية». وبما أن تقرير غولدستون لا يطالب، وليس من شأنه أن يطالب، باعتقال أحد؛ وإنما يطالب إسرائيل وحماس بالتحقيق مع الأفراد المشتبه بارتكابهم جرائم أثناء الحرب، ومعاقبة من تثبت إدانته. لذا حتى لو تبنى مجلس الأمن توصيات تقرير غولدستون بحذافيرها، فإنه سيعطي إسرائيل وحماس ستة أشهر لتقوما بالمحاكمة. وإن لم يحاكما أحداً، أو كانت محاكماتهما صورية، بعدها يمكن أن يطلب من محكمة الجنايات محاكمة كل من تشتبه به. وبواقع أن مجلس الأمن سيرفض قرار الجمعية العامة المزمع في 4 تشرين الثاني، مهما يكن متوازناً، لأسباب شتى، لعل أهمها أن الصين وروسيا تميلان باتجاه عدم تدخل مجلس الأمن في حقوق الإنسان (نقاشات «غولدستون تلفها تباينات عربية ودولية - السفير 31 تشرين الأول 2009) بينما تتذرع بريطانيا وفرنسا بأن تبني القرار من شأنه تقويض عملية السلام. وبما أن رفض مجلس الأمن للقرار سيفرغ تقرير غولدستون من معظم ما يفترض أن يترتب عليه من نتائج عملية، يقتضي الحس السليم النأي بقرار الجمعية العمومية عن مجلس الأمن، حتى لو ضغطت بعض الأطراف باتجاه إحالته إليه. فهذه الأطراف، أدركت أم لا، ستضغط بدفع من مؤيدي عدم إدانة إسرائيل. بدل إحالته إلى مجلس الأمن، أعتقد أنه يجب الدفع باتجاه قيام الأمين العام للأمم المتحدة بمطالبة إسرائيل وحماس بإجراء المحاكمات، وتشكيله لجنة من الحقوقيين الدوليين لمتابعتها. وأثناء هذه الأشهر الستة، يمكن للمنظمات الحقوقية الدولية متابعة هذه المحاكمات بالتنسيق مع لجنة الأممالمتحدة، إن قامت إسرائيل وحماس بالمحاكمة. وطالما أن هذه المحاكمات ستكون صورية، لكونها محاكمات لسياسات إسرائيل وحماس المقتنعتين بها، يمكن للمشرفين الدوليين تحريض الرأي العام للضغط على حكوماته باتجاه مطالبتها لمجلس الأمن بإجراء اللازم؛ كما يمكن لهذه المنظمات البدء بمطالبة محكمة الجنايات الدولية تولي المحاكمات بدلاً عنهما. أما إن لم تقم إسرائيل بالمحاكمة، لأن حماس ستحاكم بهذه الحال، فيمكن تهييج الرأي العام ضدها وتصبح مطالبة المنظمات لمحكمة الجنايات ومطالبة الأمين العام لمجلس الأمن من موقع أقوى. ولا يقل أهمية في هذا المجال أنه خلال هذه الأشهر الستة، بما ستعج به من أخذ ورد ومماحكات بين إسرائيل وحماس والأممالمتحدة والمنظمات الدولية، سيطوي الزمن مجمل السلبيات التي نجمت عن تعامل السلطة الفلسطينية مع تقرير غولدستون بدءاً من موضوع التأجيل حتى نهاية التصويت في جنيف. وهذا ما سيفعل فعله، نوعاً ما، في إعادة تقرير غولدستون إلى ما كان عليه. لقد كان يؤسس وما زال، من منطلق العدالة الدولية، لمعاقبة مجرمي الحرب من القادة الإسرائيليين في شكل خاص. فما فعلته حماس بصواريخها ضد المدنيين الإسرائيليين لا يساوي مثقال ذرة مما فعلته إسرائيل بأهالي غزة، والأهم لأن حماس مرحلة عابرة في الشعب الفلسطيني وعليه، أما السياسات الإسرائيلية فباقية. * كاتب فلسطيني