في الأيام السابقة عقدت الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقاءً بعنوان «نحو رؤية تطويرية شاملة»، تأتي هذه الخطوة ضمن الاستراتيجية التطويرية العامة التي وضعها الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمؤسسات الدولة كافة وعلى خلفية انتقادات حادة واجهتها الهيئة خلال السنوات السابقة، وفي سياق اجتماعي متضارب الآراء حول أهمية وجودها وطبيعة الوظيفة التي يجب أن تقوم بها. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة أساسية لا يخلو منها أي مجتمع يسعى للحفاظ على وجوده وإبقاء رفاهيته وإدامة جودة الحياة لأفراده، وهذه الوظيفة يتم القيام بها بطرق مختلفة بحسب مجموعة من المتغيرات التي تتفاوت بين المجتمعات، وهي متغيرات يجب أن تدخل في معادلة أي عملية لتطوير الهيئة. المتغيرات متعددة بدءاً من العبارة نفسها، فالأمر والنهي لا شكل واحد لهما، والآمرون والناهون في المجتمع متعددون ومتفاوتو النفوذ والتأثير والصلاحية، والمعروف يتفاوت تعريفه بين مجتمع وآخر، وبين فئة وأخرى، وبين زمن وآخر، وكذلك المنكر، ولا يوجد معروف واحد وإنما هي «معروفات» متعددة، كما أن المعروفات متفاوتة في الأهمية والأولوية بحسب المرحلة التاريخية والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك هناك منكرات متعددة وهي أيضاً متفاوتة في ضررها، فلا يوجد معروف مطلق الأهمية ومنكر مطلق الضرر. ولأن هذه الوظيفة وسيلة لا غاية، فمن المتغيرات المهمة ستكون الغاية المرادة، وهناك التفاوت بين الناس في وضع حدودها، فعبارة الحفاظ على المجتمع تثير إشكالات فور أن نبدأ محاولة تعريفها، فما الرفاهية وما الحياة الجيدة، ومتى يكون المجتمع متهالكاً، ومتى يكون صالحاً؟ من المتغيرات المهمة المعقدة: العلاقة بين الطرفين في الأمر أو النهي، فهل هي علاقة هرمية فيدخل فيها عامل السلطة، أم ندية فتعتمد على التواصل والتأثير المعنوي؟ وحيث إن هناك معروفات ومنكرات متعددة، وحيث إن الآمرين والناهين متعددون فالمجتمعات تقوم بتخصيص الأمر ببعض المعروفات والنهي عن بعض المنكرات للعلاقات الهرمية، ثم تخصص بعضاً آخر للعلاقات الندية، والمسألة تتعقد أكثر حين نجد أن المجتمع يقسم العلاقات الهرمية إلى علاقات رسمية، كالعلاقات بين الدولة والفرد، وبين رب العمل ومن يعمل لديه، وعلاقات غير رسمية مثل العلاقات بين الأب وابنه، أو كبير أسرة وأفراد أسرته، وتقوم المجتمعات بتخصيص الأمر ببعض المعروف للعلاقات الرسمية في حين تجعل الآخر للعلاقات غير الرسمية، ولشدة التعقيد في هذه الأمور فإن هذه يتم توزيعها بشكل تدريجي عبر عقود من الزمن فيها شد وجذب بين أفراد المجتمع أنفسهم، وبينهم وبين السلطة السياسية، وصولاً إلى توزيع ملائم يشعر الغالبية معه أنه يحقق مصالح الأكثر. متغير آخر هو النظام الاجتماعي، فوظيفة الأمر والنهي لا توجد في فراغ، وإنما بين مجموعة من الوحدات المتفاعلة والمتضاربة والمتضادة، هناك قوى متعددة، ومصالح متناشزة، وقيم متفاوتة، وثقافات متنوعة، ومؤسسات مختلفة، وهذه كلها تتفاعل معاً باتجاه خدمة المجتمع أو بعضه بحسب طبيعة نظامه السياسي والاقتصادي، وعليه فإن على وظيفة الأمر والنهي أن تجد موقعاً لها ضمن هذا النظام الاجتماعي، بحيث تضيف إليه وتنساق معه ولا تتضاد معه، خصوصاً أن وظيفة الأمر والنهي تُمارس من مؤسسات أخرى، فمؤسسة الأسرة تمارسه، وكذلك المدرسة، ومؤسسات المجتمع المختلفة من عشيرة وحيّ وجمعيات حقوقية، ومؤسسات حكومية، وإذن فلا بد من معرفة الحدود والصلاحيات لكي لا يتم التداخل والتجاوز. متغير آخر هو التطور في نظام المؤسسات الذي يتجه دائماً من اعتبار العلاقات الشخصية إلى اعتبار القدرات الوظيفية، ومن النظر إلى الشخص وفق تمسكه بالقيم العامة إلى النظر إليه وفق تقيده بالقيم المهنية، وهذا متغير أساسي يجب مراعاته، فالهيئة مؤسسة طهورية - إذا صح التعبير - توظف الأشخاص وفق تقييم أخلاقهم، إضافة إلى قدراتهم الوظيفية، هذا أسلوب قد تجد له موقعاً في مؤسسات الأمس ولكن ليس غداً، بل هذا الأسلوب أصبح يخلق نفوراً اجتماعياً من المؤسسة، لأن النخبوية الطهورية لم يعد لها مكان في العصر الحالي حتى لو كان لها ذلك في أزمنة سابقة. أما أهم متغير فهو سمة الحياة الإنسانية والاجتماعية من أصلها، فنحن في زمن يختلف جذرياً عن كل ما سبقه من الأزمنة، ولا بد من مراجعة وظيفة مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء تلك المتغيرات، بل لا بد من مراجعة المؤسسات كافة. حالة العالم اليوم يمكن اختصارها في عنوان كتاب: «حياة سيالة» (Liquid Life)، عنوان معبر للغاية عن عالم انعدام اليقين، عالم الشك، عالم التوتر، عالم التفكك، عالم الحيرة، وقد شرح المؤلف التحول من عالم الأمس الجامد «نسبياً» إلى عالم اليوم السيال، وكيف خلق هذا مشاكل اجتماعية ونفسية غير معروفة من قبل وقدم لنا تحديات جديدة لا يوجد لها آليات تعامل، من أبرزها مشكلة الهوية الفردية ومشكلة التواصل الاجتماعي. فهوية الإنسان المستقرة تتشكل من خلال علاقاته والتزاماته المستقرة، واليوم نجد أنفسنا في مجتمع متنوع العلاقات، متسارع التغيير فيها، مما يجعل الثبات في الهوية من أمور الماضي، الهوية المستقرة تحتاج إلى استقرار علاقات وصلات، بل العلاقات الاجتماعية كلها تحتاج إلى استقرار لتتشكل وتتكون، واليوم لا استقرار، ولا يقين، وإنما قلق وشك، وتغيّر وتحول. أيضاً التواصل الاجتماعي يتطلب استقراراً بحيث تتشكل سياقات مشتركة تعين على خلق لغة مشتركة، اليوم لم يعد هذا ممكناً، إن المفاهيم الأساسية التي يتواصل من خلالها الناس مثل: الخلاص، الفردية، الزمان، المكان، العمل، المجتمع، الحرية، الأخلاق، الحق، الباطل، العدل، الظلم، يتغير فهمنا لها بسرعة بحيث نفقد القدرة على التواصل مع الآخرين، ونفقد القدرة على أن نكوِّن مشتركاً للحياة كما كان بالأمس، ومن آثار ذلك فقدان التواصل بين الأجيال المتتابعة، بل وتغير نوع الصراع، في الماضي كان صراع الأجيال صراع مصالح وقوى بين جيل سابق وآخر لاحق، وأما اليوم فهو صراع بين نمط حياة جامد وآخر سيال. إن توتر الهوية وغياب لغة مشتركة للتواصل الاجتماعي خلق مجموعة من المشاكل لم تكن موجودة، مثل ظاهرة الحياة الضائعة والمهجرين والمرفوضين، والمنبوذين، وتغيرت طبيعة مشكلات سابقة مثل الطلاق الذي كان موجوداً على الدوام، ولكنه اليوم موجود بطريقة مختلفة فتجربة الطلاق ومعاناته والنظرة إليه اختلفت. ما لم يتم التعامل مع المتغيرات السابقة، خصوصاً طبيعة الحياة السيالة، فستبقى مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤسسة مقحمة على المجتمع تتوتر معه ولا تندمج فيه، مؤسسة لا تجد شرعيتها إلا من دعم الحكومة لها، أما إذا أردات أن تكون مؤسسة مندمجة في المجتمع، فعليها أن تجد نفسها في مشكلات وتحديات المجتمع كما هي اليوم وليس كما كانت مرسومة قبل قرون، عليها أن تجد شرعيتها وضرورة استمرارها من حاجة الناس إليها وشعورهم بما تقدمه لأمنهم النفسي والاجتماعي في عالم فقد الأمان والاستقرار. إن حديث السفينة رسم بشكل فني دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه ترك لنا تحديد ماهية السفينة، وترك لنا تحديد ما يغرقها، أهم وظيفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي وضعنا أمام أنفسنا لكي ننظر إلى ما حولنا ونفهم كيف ينبغي أن نتصرف، والمطلوب من مؤسسة تقوم بالأمر والنهي أن تحدد شكل السفينة الجديد الذي اختلف عن السفينة التي سار عليها الناس من قبل، كما يطلب منها أن تتعرف على أشكال الخرق الحديثة والتي تجاوزت السلوك المنحرف إلى سيالية الحياة كلها، ثم من المطلوب منها أن تقوم بالإسهام في وضع المجتمع في خطوات للتعامل مع هذه السيولة. [email protected]