في مصادفة مثيرة، تزامن لقاء الوفد الصحافي العربي الذي زار الدنمارك أخيراً، بدعوة من حكومتها، بكوني هيدغار وزيرة الطاقة والمناخ في الدنمارك، مع زيارة للرئيس الأميركي باراك أوباما. ويومذاك، خلت الشوارع الموصلة بين الرصيف البحري جنوب غربي المدينة، ووسطها من المارة. وفي ظهور نادر، اصطف رجال الشرطة والأمن بكثافة قرب المباني الحكومية التاريخية في وسط كوبنهاغن التي يتشكّل وسطها من تقاطع لشبكة من الأقنية البحرية مع مناطق سكنية تضم مباني ذات طابع تراثي غالباً، وضمنها مبنى المحافظة والبلدية والبرلمان وغيرها. وسارت قوارب حربية مطاطية في الأقنية البحرية، زيادة في الحرص على سلامة أوباما. واحتشد الناس في المناطق التي سُمح لهم بالتجمّع فيها. وسعى كثير منهم لتحية أوباما الذي يتمتع بشعبية كبيرة في الدنمارك. وتذكر البعض أن زيارة سلفه الرئيس جورج بوش خلت من مظاهر الاتصال مع الناس، إذ اكتفى بلقاءاته الرسمية. وتميل الوزارات الى استخدام مبان أثرية، لكنها تعيد تجديد دواخلها، مع التركيز على التوظيف الكثيف لتقنيات المعلوماتية والأدوات الإلكترونية فيها. وبذا، يصبح التفاوت بين الداخل والخارج مصدراً لجمال ذكي. وزيرة المناخ تنال إعجاب اليمين واليسار كمعظم الوزارات، ضمت أرجاء وزارة الطاقة والمناخ لوحات فنية، قيل تكراراً أنها تمثّل جزءاً من التقليد الحكومي في عرض اللوحات على مدار العام، ثم شراء البعض منها في ختامه. وتُخصص الوزارات قسماً من موازنتها لهذه اللمسة الجمالية. وعلى عكس البهرجة الزائفة للكثير من الشخصيات الحكومية في العالم الثالث، جاءت الوزيرة هيدغار الى اللقاء بملابس بنية تطغى عليها أناقة البساطة. ولم تكس وجهها سوى بأقل من القليل من الزينة والمكياج. كيف لو أنها قورنت بنظيراتها عربياً وعالمثالثياً؟ ودخلت بجسدها النحيل الى مكتبها، الذي سبقها الوفد إليه. وأوضحت أنها قدمت تواً من بانكوك، حيث شاركت في افتتاح مؤتمر عالمي عن البيئة تمهيداً لمؤتمر الأممالمتحدة عن المناخ الذي تستضيفه الدنمارك في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وبدت متفائلة بما تعهّد به الرئيس الصيني هوجنتاو في مؤتمر بانكوك، بالعمل على تخفيض ما تبعثه بلاده من غازات التلوّث، ملوّحاً بإمكان أن تحصل الصين على 15 في المئة من حاجاتها من الطاقة من مصادر نظيفة. (وبعد أيام من اللقاء، سرت أنباء عن فشل مؤتمر بانكوك بسبب الخلاف على نقل التكنولوجيا بين الصين والهند ومجموعة من الدول النامية من جهة، والدول الصناعية الكبرى من الجهة الأخرى). وأبدت الوزيرة هيدغار التي يبدو أنها موضع إجماع بين اليسار واليمين في الدنمارك، اعتزازها بأن 16 في المئة من الطاقة الكهربائية في الدنمارك تأتي من الطاقة المجدّدة. وشدّدت على ان الدنمارك حققت نمواً اقتصادياً مطرداً منذ 1981 بمعدل سبعين في المئة، من دون زيادة استهلاك البلاد من الطاقة (ما عدا قطاعي المواصلات والسفن)، مع معدل للبطالة بقرابة 1.6 في المئة. وهي تسعى الى خفض استهلاك الطاقة بمعدل إثنين في المئة. ولفتت الى وضع معايير جديدة للبناء بداية من «صدمة النفط» في 1973. البيئة وجمود أطر الملكية الفكرية دار نقاش بين أعضاء الوفد والوزيرة حول مسألة نقل التكنولوجيا. فمن وجهة عربية وعالمثالثية، لم يكن صعباً القول أن الغرب تسبب بتلوث البيئة، وتالياً، عليه أن يتحمل المسؤولية الأساسية في حل تلك المشكلة. ولأن الطاقة البديلة مُكلفة ومتقدمة تقنياً، يصبح تبنيها في الاقتصادات الهشّة للعالم الثالث أمراً صعباً، ما لم يجر نقل التكنولوجيا المتصلة بها، بصورة مكثّفة وبحيث تشمل الأساس العلمي لتلك التكنولوجيا، فلا تقتصر على الوسائل والأدوات. وأوضحت الوزيرة أن ذلك يتعارض مع مسألة حقوق الملكية الفكرية للشركات التي تنتج تكنولوجيا الطاقة البديلة. وبذا، انتقل النقاش الى تلك المسألة، التي تحتل موقع أساسياً في نقاشات البيئة دولياً. ومن منظور عربي وعالمثالثي أيضاً، عُرِضَت على الوزيرة وجه نظر تقول ان النفط يمثّل ثروة العرب الأساسية، وكذلك فإن ثرواته تستخدم في تنمية الدول العربية والإسلامية والنامية، بغض النظر عن الكفاءة التي تستخدم فيها تلك الثروة. هل من العدل السعي الى حرمان شعوب من ثروة أساسية، تحت شعار «التخلّص من الوقود الإحفوري» (وأحياناً بطريقة أكثر مباشرة، يطرح شعار «التخلص من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط)، ثم لا تنقل إليها التكنولوجيا الأساسية، ثم يطلب منها الانتقال الى طاقة جديدة لتنوء بها اقتصاداتها المثقلة بأعباء التخلف في التنمية؟ هل أن مصائر تلك الشعوب وتقدمها ومستقبلها وتنميتها أقل شأناً من الشركات والبنوك، بحيث أنه جرى تغيير قواعد التعامل الأساسية الراسخة في النظام العالمي، لإنقاذها من أزماتها، ثم يتم التمسّك الجامد بتلك الأسس (مثل حقوق الملكية الفكرية) عندما يصل الأمر الى مصير التنمية في العالم الثالث؟ أسئلة تلقتها الوزيرة بصبر، قبل أن يختتم اللقاء. السد العالي سبّاق في الطاقة النظيفة في قاعة ضجّت بالوسائل الإلكترونية المتقدمة، قدّم هانز يورغن كوخ، نائب سكرتير الدولة لشؤون الطاقة، عرض شرائح بعنوان «إلتزام الدنمارك بالطاقة المتجدّدة». واستهله كوخ بالإشارة الى إن روسيا تعطي مثالاً عن عدم الثبات في مصادر الطاقة، بفعل التقّلبات السياسية (ربما الحرب مع جورحيا مثالاً)، وأن الصين باتت الملوّث الأكبر للبيئة. والمعلوم أن ما يفصلها عن الولاياتالمتحدة لا يتجاوز بضعة كسور عشرية! وتناول كوخ الطاقة العالمية من منظار التحدي الثلاثي المؤلّف من الأزمة الاقتصادية العالمية (وضمنها أسعار الطاقة) والاستقرار في إمدادات الطاقة وأمن خطوطها، ثم الأزمة الحاصلة في المناخ. ورأى الحل في طاقة خضراء عالمياً بأسعار رخيصة. وشدّد على أن جبال الدنمارك لا تصلح كمصدر للطاقة الهيدروكهربائية، ما جعل ذاكرة كثير من الحضور تنتقل الى السد العالي في مصر بتوربيناته ال12 التي توّلد عشرة آلاف ميغاواط ساعة كهرباء سنوياً، من دون أي تلوّث. ولنلاحظ أن إجمالي حاجة بلد مثل الدنمارك من الكهرباء تصل إلى 9200 ميغاواط ساعة سنوياً! في هذا المعنى، سبقت مصر دولاً نامية ومتقدمة في الاعتماد على الطاقة النظيفة. ويصعب عدم تذكّر أن الغرب قاوم مشروع السد العالي، عبر منع التمويل عنه من البنك الدولي، في زمن كان التلوّث في تلك البلدان منفلتاً، خصوصاً مع أسعار نفط بشكل غير عادل آنذاك، بسبب شدّة تدنيها. ولاحظ كوخ أن الدنمارك كانت تعتمد على النفط المستورد بنسبة 99 في المئة، عند حدوث «صدمة النفط» الأولى. ثم اكتشف النفط في بحر الشمال، ما حوّلها إلى دولة مُصدّرة للطاقة. وبيّن أنها تتمتع حاضراً بوضع فريد عالمياً كدولة نفطية، بسبب التنوّع في مصادر الطاقة. وأوضح أنها تحصل على 3500 مليون واط ساعة كهرباء من طاقة الريح، فتحتل المرتبة الأولى عالمياً في نسبة الكهرباء الآتية من الطاقة المتجددة (قرابة 30 في المئة)، التي تشكّل قرابة 15 في المئة من إجمالي الطاقة، من دون احتساب المواصلات. ولم يعتَبِر ذلك غريباً في ظل مشاريع عملاقة مثل مزرعة الريح البحرية «هورنز ريف» Horns Rev. ونبّه إلى أن مزرعة الريح البحرية الأولى انطلقت عام 1991، وأن عددها وصل الى ثمانية تعطي 423 ميغاواط ساعة سنوياً من الكهرباء. وأوضح ان قدرات مزرعة الريح البحرية تصل راهناً الى مئتي ميغاواط سنوياً، وستبلغ 400 ميغاواط ساعة سنوياً في 2012. وثمة رهان بأن يصل العدد الى ما يوازي 23 موقعاً بقوة 200 ميغاواط ساعة سنوياً لكل منها، ما يغطي نصف حاجات الدنمارك من الكهرباء. وأشارالى أن طاقة الريح المحلية تشكّل ثلث ما ينتج منها عالمياً، ما يعتبر رقماً قياسياً للدنمارك. ونوّه بالخبرة المتراكمة في مجال إدارة شبكات الكهرباء. وأشار الى مشروع تتشارك فيه الدنمارك وألمانيا والسويد يتضمن إنشاء 3 مزارع ريح بحرية ضخمة، طاقاتها 640 ميغاواط ساعة سنوياً و450 ميغاواط ساعة سنوياً، و330 ميغاواط ساعة سنوياً. ويصل مجموع تلك الطاقات الى 1800 ميغاواط سنوياً. ويلاقي مساندة من «الاتحاد الأوروبي» بمقدار 150 مليون يورو. ولعل بعض مستمعي كوخ خطر لهم أن هذا الموضوع نادراً ما يناقش في البلاد العربية، على رغم أن بعضها منخرط في مشاريع عابرة للأوطان، مثل «شبكة الربط العربية» التي تشبه الشبكة التي تربط البلاد الإسكندنافية، علماً بأن الدنمارك تُمد تلك الشبكة بطاقة تساوي نصف استهلاكها محلياً. وأورد كوخ بيانات عن الطاقة لم يرد فيها قطاع المواصلات، ما أثار نقاشاً حولها. وبيّن أنه غالباً ما لا ترد المواصلات في أرقام الطاقة وبياناتها لأسباب متنوّعة. وأعطى كوخ نموذجاً على ذلك قطاع السفن، الذي يعتبر من أضخم قطاعات الاقتصاد محلياً. وأشار الى أن من الصعب الاحتساب الدقيق للتلوّث في هذا القطاع، لأن السفن تنقل البضائع بين الدول، فعلى من يقع العبء المناخي: المصدر أم المقصد أم الشاحن؟ [email protected] أيهما أفضل للبنان... الفحم المُلوّث أم طاقة الريح المتجددة؟ سامسوو جزيرة لسياحة البيئة لا تزفر ثاني أوكسيد الكربون