ترسي الأزمة المالية العالمية التي لم تنتهِ تماماً بعد، شروطاً جديدة لنقاش أهداف السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لأكثرها أصلاً او صارت له بفعل العولمة، أبعاد تمتد من الدول الوطنية الى العالم بأسره، وبالأخص شطره الأكثر تقدماً.وفي مقدم هذه الموضوعات العدالة الاجتماعية بما هي بناء أخلاقي وسياسي مُتحصّل من سلسلة من الخيارات التي تحدد مفاتيح التوزيع وإعادة التوزيع بين أعضاء المجتمع استناداً الى مبادئ كالمساواة في الحقوق أو تكافؤ الفرص. والنتائج الاخيرة لتحقيقات تتواصل منذ عام 1981 في اطار جامعي اوروبي بعنوان «دراسات القيم الاوروبية» (EVS ) بليغة الدلالات في خلاصاتها. فهي تتيح مقارنات لمدى زمني طويل يسمح بقياس التغيرات الاكثر عمقاً في مُدرَكات المشمولين بها وما يمثّلون كعيّنات، لبعض قضايا منظومة القيم. أحد أسئلة التحقيق كان حول الاختيار بين مبدأي الحرية والمساواة. وهو سؤال يشكل الجواب عنه مؤشراً قوياً. اذ ينبغي للمُستفتى الذي يعتمد المساواة ان يُسقِط مؤشراً قيمياً شديد الاهمية الرمزية: أي الحرية. بالطبع فإن في السؤال بعض الإكراه بما هو تخيير بين مبدأين قيميين أساسيين، لكن جواب التحقيق عليه يكتسب أهمية من كونه يقدم صورة عن تطور التراتبية في منظومة القيم خلال 27 عاماً. ضمن هذا الإطار يسجّل التحقيق الذي شمل 27 بلداً اوروبياً ونشرت أخيراً نتائجه، زيادة نسبة مُختاري المساواة على الحرية في فرنسا، من 32 في المئة عام 1981 الى42 في المئة عام 1999 الى 57 في المئة عام 2008. اي أن أكثرية الفرنسيين تعتمد اليوم تراتبية قيمية تعطي الاولوية للمساواة، بعدما اعطت طيلة قرنين الاولوية للحرية. في هذا الانحياز الجديد انعكاس نسبي للانقسام التقليدي بين اليسار واليمين. فاليسار أكثر ميلاً لترجيح مبدأ المساواة، وجعله شرطاً شارِطاً لتحقيق مبدأ الحرية. لكن هذا التعليل لا يكفي وحده كتفسير، خصوصاً أن وزن اليسار الفرنسي اليوم ليس غالباً، وبالتالي فإن قسماً من انصار اليمين ايضاً هو في معرض اعادة النظر بانحيازاته التاريخية، لأسباب تتعدى السياسة. هذا ما تؤكده التحقيقات حول جوانب اخرى. إذ تظهر ان تفضيل المساواة يشتد بين ضعيفي المداخيل من دون تمييز بين يمينييهم ويسارييهم. كما تناقص التأييد لمبدأ المنافسة من 60 في المئة عام 1990 الى40 في المئة. وفي الوقت نفسه ازدادت نسبة الفرنسيين الذين يعتبرون الدولة مسؤولة عن تأمين حاجاتهم الاساسية الى 24 في المئة. كما ارتفعت نسبة المطالبين بإعادة تأميم المؤسسات من 28 في المئة عام 1999 الى 42 في المئة عام 2008. وتناقصت نسبة القائلين بإلزام العاطلين من العمل بقبول اي عرض استخدام حفاظاً على تعويض البطالة او تمديده من 52 في المئة عام 1990 الى 33 في المئة في 2008. بينما يستمر ثلثا الفرنسيين بالاعتقاد ان الفقر عائد الى لا عدالة المجتمع. وهذه في مجملها مُعطيات تؤشّر الى طلب متنامٍ على دور الدولة الراعية واستعادة القيم المساواتية في آن، بوجه السياسات النيوليبرالية الغالبة. وكان هذا الاتجاه قد برز قبيل الأزمة وهو يشتد بعدها. وأسباب هذه التحولات في المنظومة القِيميَة كثيرة غالبها بنيوي. في نظر روبير كاستيل عالم الاجتماع الفرنسي الذي اصدر هذا العام كتاباً بعنوان «صعود اللايقينيات: العمل والتأمينات ووضعية الفرد»، فإن التحول الكبير الذي أجرته الرأسمالية ما بعد الصناعية، تمظهر في دينامية إعادة الفردية أو إضعاف الجماعاتية في «مجتمع الأُجراء» الذي تشكّل على مدى الثلثين الأولين من القرن المنصرم ومعه تشكلت «الدولة الاجتماعية» في البلدان الصناعية. وفي ذلك مخاطر جديدة لأن هذه الدينامية تجري ترجمتها هشاشة وبطالة، وشخصنة وعدم استقرار لعلاقة العمل وتفلتها من أنساق الترتيبات والالتزامات الجماعية بما كانت تمثله في مجالات الحماية واللُحمة والتي جعلت من «المكتسبات الاجتماعية» مفهوماً اقرب الى «الملكية الاجتماعية» ل «غير المالكين». وانه لا بد لهذا السبب من اعادة التفكير بالأمان الاجتماعي في «مجتمع الأفراد»، الأمر الذي يُلزم الدولة بإعادة تحديد دورها وقانون العمل بإعادة تحديد مبادئه. في السياق ذاته، صدر قبل اسابيع كتاب بعنوان «الخوف من فقدان المكانة» لعالم الاجتماع اريك موران، الذي يصف القلق الأصم الذي يُطارد الفرنسيين من البطالة والخوف على مستقبل اولادهم ان لم يحصلوا على كفاءة دراسية تناسب سوق العمل ومن ضياع المكاسب الاجتماعية عموماً. ويسوق موران معطيات صافِعة في هذا المجال. إذ يعتقد 48 في المئة من الفرنسيين ان في امكانهم ان يصبحوا يوماً من دون مأوى مثل المئة الف الذين تقول الجمعيات انهم في هذا الوضع بتاريخ الاستطلاع. وفي موضوع العلاقة بين الدراسة وسوق العمل يذكر الكاتب ان البطالة هي اقل من 10 في المئة بين اصحاب شهادات التعليم العالي من الشباب مقابل 50 في المئة بين غير الحاصلين عليها، بينما لم يكن هذا الفارق يتجاوز عشرة في المئة قبل خمسين عاماً. ثمة كتابات اخرى تؤشر الى قلق الأطر العليا وأفراد الطبقة الوسطى من التفاوت في شروط العمل وأجره حتى داخل الفئات المهنية ذاتها والناجم عن شخصنة العقود وحلول معايير المنافسة والفعالية، والى الخوف من الصرف في مؤسسات كبيرة هلهلتها الازمة. من دون نسيان فئات يزيد عديدها بين من خرجوا نهائياً من سوق العمل بسبب قلة اتصافهم المهني او أعمارهم المتقدمة او تدمير وظائفهم نتيجة نقل الصناعات الاكثر تطلباً لليد العاملة والمحتوية على قدر اقل من القيمة المُضافة، الى البلدان الحديثة التصنيع. فضلاً عن اشكاليات احتواء الهجرة. هذه الوقائع وكثير غيرها تفسّر تعاظم الطلب في فرنسا على دولة تضمن احترام تراتبية جديدة للقيم تحفظها كمنظومة اجمالية على ان تحتل فيها المساواة الموقع النسبي الاول، بصفتها فضاءً معنوياً ومبدئياً لفهم او صوغ اشكال تدخل الدولة وهيئات المجتمع المدني لحماية الأفراد، كمواطنين في زمن اللايقينيات الاقتصادية-الاجتماعية، وبما يحفظ لهم قيمة الحرية بصفتها حق الأفراد في ممارسة خياراتهم الخاصة بما في ذلك ازاء العمل. وهو وضع له نظائر بمقادير وبأشكال مختلفة في بلدان اوروبية اخرى. المشكلة التي يدركها الباحثون والسياسيون ان الشروط التي انتجت «الدولة الاجتماعية» هي بمعرض الانقضاء جزئياً على الاقل. إذ كان استنادها الى تسويات متتالية بين الصناعات الكبيرة والنقابات القوية في دول معظمها ليبرالي سياسياً وتغلب فيه اتجاهات الديموقراطية الاشتراكية الاصلاحية. تسويات سمحت بتحويل «بروليتاري» القرن التاسع عشر الى أجير ومُستخدَم القرن العشرين. والحال ان العولمة الجديدة حققت منذ بداية التسعينات تسارعاً وشمولاً غير مسبوقين مع نهاية الحرب الباردة والموت الفعلي والنظري للبديل «الاشتراكي العلمي» لاقتصاد السوق، ومع انخراط الصين في النظام المالي والتجارة العالميين. ما يجعل من اي عودة الى الوراء مستحيلة. وفي المقابل، فإن الأزمة استدعت تدخلاً كثيفاً من الحكومات منفردة ومجتمعة ومن المنظمات النقدية والاقتصادية الدولية لمنع انهيار القطاع المصرفي وتفادي الركود.الأمر الذي يمنح الاولى قوة تفاوضية مستجدة في العلاقة مع رأس المال المالي ويُضعف شرعية الطروحات النيوليبرالية في الوقت عينه. وهو ما يمكن التعويل عليه في ما يتجاوز ايجاد آليات الضبط والرقابة الماليين الى اعادة النظر بتوجه يتعامل مع الموضوع الاقتصادي كما لو كان تقنية خالصة لا تفاعل ولا علاقة لها بالاجتماع والسياسة وأخلاقهما. لكن استخدام هذه القوة التفاوضية يرتبط ايضاً بوجود قوى تقترح وتتبنى تسويات تتيح تظهير التراتبية الجديدة في شروط انبثاق «دولة الأفراد». ويقترح كاستيل لفرنسا، ان يكون هناك تحديد لإطار سياسي لإصلاحية يسارية مختلفة. حيث ان خطاب الاصلاح، كان يظهر كما لو أنه حكر على اليمين لأن اليسار الفرنسي مأخوذ بين ماركسية لم يستطع التخلص من تشبعه المديد بها، وبين نشاطية يمينية تخفي محافظتها الجوهرية وراء ليبرالية سطحية وغير متماسكة. وهذا حديث آخر... * كاتب لبناني