يتراءى من بعيد معسكر الجيش الاسرائيلي في منطقة «وادي المالح» في الاغوار الشمالية في الضفة الغربية بمبانيه الحجرية واشجاره الخضراء ومرافقه المتنوعة كأنه قرية اوروبية حديثه. وليس بعيداً عن المعسكر، تنتشر عشرات بيوت الخيش المتنقلة لمزارعين ومربي مواشي فلسطينيين تحرمهم السلطات الاسرائيلية من اقامة مبان لهم في هذه المنطقة الممتدة من مدينة اريحا جنوبا حتى بيسان شمالا، ومن نهر الاردن شرقا حتى مدينة طوباس غربا. وتفرض السلطات منذ الاحتلال عام 1967 قيوداً مشددة على وجود الفلسطينيين في هذه المنطقة التي تشكل نحو 27 في المئة من مساحة الضفة الغربية، ما ابقى عدد سكانها الاقل في اي منطقة اخرى قياسا بالمساحة (50 ألف مواطن فقط). وتستخدم السلطات هذه المنطقة الواسعة بجبالها وسهولها الزراعية الممتدة ميادين للتدريب العسكري، وأنشأت فيها سبعة معسكرات للجيش تحوّلت مع الزمن الى مستوطنات عسكرية يقيم فيها آلاف الجنود مع آلياتهم واسلحتهم المتنوعة. وقال رئيس المجلس المحلي لمنطقة وادي المالح عارف ابو عامر ان «الجيش الاسرائيلي يسيطر على 70 في المئة من اراضي المنطقة التي حولها الى ميادين تدريب بكل انوع الاسلحة والذخائر». وعلى هوامش تلك المعسكرات، يعيش نحو خمسة آلاف مواطن من مربي المواشي والمزارعين في بيوت من الخيش والبركسات. ولم يخف قادة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة رغبتهم في ابقاء سيطرتهم على هذه المساحة الواسعة من الضفة. وقال مسؤولون فلسطينيون ان اسرائيل طرحت في اللقاءات التفاوضية المختلفة ابقاء هذه المنطقة منطقة عسكرية مغلقة تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي، متذرعة بحاجة اسرائيل الى وجود عسكري فيها لحماية «الجبهة الشرقية». لكن اهالي المنطقة يقولون ان اسرائيل تستغل الطبيعة الجبلية للمنطقة لإجراء تدريبات عسكرية تبدو مثالية لأي جيش في المنطقة. وقال رئيس مجلس قرية العقبة الحاج سامي صادق ان الحاكم العسكري للمنطقة ابلغه قبل سنوات (عام 2000) ان الجيش الاسرائيلي يرى في الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة شبيهاً بجبال الجنوب اللبناني، ما جعله يستخدمها منذ مطلع السبعينات للتدريب العسكري. وشكّل الجنوب اللبناني منذ مطلع السبعيات تهديداً للجبهة الشمالية لاسرائيل، اذ استخدمته قوات الثورة الفلسطينية في لبنان ومن بعدها قوات المقاومة اللبنانية، منطلقاً لشن هجمات عبر الحدود. وخاضت اسرائيل في هذه المنطقة من لبنان سلسلة حروب بدأتها بحرب عام 1978 مرورا باجتياح عام 1982 الذي وصلت فيه قواتها الى قلب العاصمة بيروت، وصولا الى حرب تموز (يوليو) عام 2006. ونجحت قرية العقبة الصغيرة الواقعة اقصى شمال هذه المنطقة في ازالة معسكر اسرائيلي ثامن كان مقاما بجوار القرية قبل سنوات قليلة، بعد دعوى قضاية رفعت امام محكمة العدل العليا الاسرائيلية. وقبلت المحكمة الدعوى بعد ان اثبت محامو القرية الاسرائيليون وقوع عشرات الضحايا من قتلى وجرحى برصاص الجيش الاسرائيلي اثناء عمليات التدريب العسكري. ومن الضحايا رئيس المجلس القروي سامي صادق الذي اصيب مطلع السبعينات بثلاث أعيرة نارية خلفت لديه شللاً نصفياً. ونقلت السلطات المعسكر المُخلى الى المعسكرات السبع الاخرى التي تواصل من دون توقف أعمال التدريب في الجبال والسهول المفتوحة، ما يلحق اضراراً فادحة بالبشر والحقول والجغرافيا. فكثيرا ما يصاب مواطنون في الحقول والمراعي بقذائق واعيرة نارية ضالة، واحيانا يصطدم الرعاة او مواشيهم بقنابل من مخلفات الجيش. ولتمهيد الارض لعمليات التدريب، يعمد الجيش بين فترة واخرى الى تغيير ملامح المنطقة عبر اقامة خنادق وتحصينات فيها. ويغلق الجيش الاسرائيلي جميع الطرق الموصلة الى هذه المنطقة، مستخدماً ستة حواجز عسكرية تحوّل بعضها الى معابر شبيهة بتلك التي تفصل بين الدول. ولا يسمح الجنود لغير سكان المنطقة بدخولها باستثناء المنظمات الدولية والاغاثية والبعثات الاجنبية وبعض موظفي السلطة الذين يجري التنسيق لدخولهم مسبقاً. وزار المنطقة الاسبوع الماضي رئيس الحكومة الفلسطينية الدكتور سلام فياض الذي دشن عدداً من المشاريع الحيوية فيها، بينها تزويد المضارب والتجمعات الرعوية بصهاريج مياه، وجرارات زراعية، وحظائر معدنية واعلاف للمواشي، وخلايا شمسية لتزويدهم بالطاقة الكهربائية للاستخدام المنزلي. وقال فياض ل «الحياة» ان «السلطة تدرك الخطط الاسرائيلية الرامية لإفراغ هذه المنطقة الحساسة من اهلها، لذلك فهي تعمل على تعزيز بقاء المواطنين في ارضهم عبر تزويدهم بما يسهل حياتهم ويشجعهم على البقاء». واضاف: «اسرائيل تمنع المواطنين هنا من اقامة بيوت، ومن توفير المياه والكهرباء، لذا فنحن نقوم بتزويدهم بما يحتاجونه ليبقوا في ارضهم وكي لا يخلوها». وخصصت حكومة فياض أخيرا 26 مليون دولار لدعم المضارب البدوية والرعوية في انحاء الضفة. وقال فياض: «هذا احتلال احلالي استيطاني، لذلك فإن مقاومته تبدأ من بقاء المواطن في ارضه وعدم تركها». وفي قرية العقبة المهددة بالهدم بأكلمها، دشن فياض مجموعة من المشاريع الحيوية، منها شوارع داخلية وخارجية. وتشكل هذه القرية مثالا صارخا للحرب التي تشنها السلطات الاسرائيلية على الفلسطينيين في هذه المنطقة، اذ اصدرت السلطات في الاعوام القليلة الماضية اوامر هدم لجميع مباني القرية البالغ عددها 45 بيتا ومنشأة، بما فيها مسجد وروضة اطفال. وكان اهالي القرية اقاموا بيوتهم هذه في السنوات الاخيرة رغماً عن السلطات التي رفضت منحهم ترخيصا لذلك. وسارعت السلطات لاصدار اوامر هدم لجميع المباني، سواء القائمة منها او قيد الانشاء. وقال رئيس مجلس القرية سامي صادق ان عشرات العائلات كانت تعيش في بيوت شعر في هذه القرية قبل عام 1967، لكن بعد احتلالها اعلنت عنها السلطات منطقة عسكرية مغلقة ومنعت اي أحد من إقامة اي بناء فيها». واضاف: «وعندما اراد اهل القرية الذين يملكون ارضها، بموجب سندات ملكية طابو منذ العهد الاردني، إقامة بيوت لهم فيها، منعتهم السلطات». وتفرق غالبية اهالي هذه القرية في العقود الثلاثة الاخيرة في القرى والمناطق المجاورة، لكنّ عددا منهم بقي فيها وأقام بيوتاً غير مرخصة. وقدم اصحاب القرية اعتراضات جماعية على قرارات الهدم، الامر الذي اعاق تنفيذها لحين بت المحاكم الاسرائيلية في هذه الاعتراضات. وهذه المرة الثانية التي يزور فيها فياض هذه القرية المهددة في غضون ستة اشهر. وقال إن «زيارته تحمل رسالة سياسية مفادها ان السلطة ستقف مع المواطنين في مواجهة اجراءات تفريغ الارض من اصحابها».