هناك اتفاق بين المفكرين في العالم اليوم على أن العولمة باعتبارها العملية التاريخية التي تقود مسارات الدول الآن في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لها جوانب إيجابية ولكن لها سلبيات واضحة أيضاً. وأهم هذه السلبيات أن العولمة ساعدت على عولمة المخاطر التي تؤثر في أمن الإنسان، بحكم الثورة الاتصالية وسرعة تنقل البشر من مكان إلى مكان آخر في المعمورة. وقد برز مفهوم أمن الإنسان في السنوات الأخيرة ليتجاوز مفهوم الأمن القومي الذي يهتم بأمن الدول. وطُرحت فكرة إنشاء لجنة مستقلة «لأمن الإنسان» للمرة الأولى في مؤتمر قمة الأممالمتحدة للألفية الذي عقد عام 2000. وكان هناك اتفاق عام على أهمية «التحرر من الفاقة» و «التحرر من الخوف». ومنذ ذلك الوقت برزت مشكلات جديدة تحتاج إلى مواجهة فعالة، تتمثل في الهجمات الإرهابية والعنف العرقي والأوبئة، والانتكاسات الاقتصادية المفاجئة. ويوجد خوف أيضاً – كما يقرر تصدير التقرير – من عدم قدرة المؤسسات والسياسات الموجودة حالياً على مواجهة ضعف تعددية الأطراف، وتهاوي احترام حقوق الإنسان، وتآكل الالتزامات بالقضاء على الفقر والحرمان. والواقع أن مفهوم المجتمع العالمي الذي ورد في صدر التقرير عن «أمن الإنسان» يحتاج إلى وقفة. ذلك أن العالم – بفضل عمليات الاعتماد المتبادل بتأثير العولمة، وثورة الاتصالات - أصبح مجتمعاً عالمياً هو وحدة التحليل الأساسية لفهم ما يحدث الآن. ولحقت المجتمع العالمي في العقود الأخيرة تحولات شتى يمكن اجمالها أولاً في الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي (الذي يفترض سيادة الديموقراطية والشفافية وحق كل مواطن في الحصول على المعلومات مجاناً) والذي يتحول – ببطء وإن كان بثبات – إلى ما يطلق عليه «مجتمع المعرفة»، الذي ينمو الآن مصاحباً لتحول الاقتصاد إلى اقتصاد معرفة، بحيث ستصبح العملية الأساسية في أي مجتمع متقدم هي عملية إنتاج المعرفة، التي ستفوق أهميتها كل عناصر الإنتاج التقليدية. والتحول الثاني هو انتقال المجتمع الإنساني عموماً من الأمن النسبي إلى مجتمع المخاطر. ذلك أن المخاطر الجسيمة الناجمة عن كثير من العوامل، مثل الانتشار الذري وظهور أمراض غير مسبوقة، وسلبيات عمليات الهندسة الوراثية، وسوء استخدام التكنولوجيا، إضافة إلى الإرهاب، أصبحت تهدد المصير الإنساني ذاته. والتحول الثالث هو الانتقال من الاقتصاد العالمي World Economy إلى العولمة، والتي هي في تعريفها الإجرائي تعني «حرية تدفق السلع والخدمات والأفكار والبشر بغير قيود ولا حدود». والتحول الرابع هو سقوط نموذج الأمن القومي التقليدي الذي كان يقوم على حراسة حدود الدول وسيادتها، إلى نموذج جديد للأمن القومي المطلوب منه أن يجابه تحديات الحروب الفضائيةCyber Wars وحروب الشبكات Net wars، والتي تتمثل في شبكات الإرهاب التي تستخدم أدوات ثورة الاتصالات وكذلك جماعات المافيا العالمية، وتجار السلاح. والتحول الخامس والأخير هو زيادة الاعتماد المتبادل بين الدول، وزيادة معدلات الاتصال بين الشعوب نتيجة للثورة الاتصالية الكبرى، وسيادة ثقافة الصورة التي أصبحت المصدر الأساسي الآن في تشكيل الوعي الإنساني على ثقافة الكلمة المكتوبة. ونريد أن نركز اليوم على انتقال المجتمع الإنساني عموماً من الأمن النسبي إلى مجتمع المخاطر. وربما كان عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز هو الذي أبرز بقوة العلاقة بين العولمة والمخاطر. وهو يقول في كتابه «علم الاجتماع»: «تؤدي العولمة إلى نتائج بعيدة المدى وتترك آثارها على جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريباً. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر، تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر. فكثير من التغييرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا أشكالاً جديدة من الخطر، تختلف اختلافاً بيناً عما ألفناه في العصور السابقة. لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الأسباب والنتائج، أما مخاطر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا أن نعدد مصادره وأسبابه، أو نتحكم في عواقبه اللاحقة». (راجع الترجمة العربية لفايز الصباغ، المؤسسة العربية للترجمة، 2005) وهكذا استطاع جيدنز بهذه العبارات المركزة أن يصوغ مشكلة البحث في موضوع المخاطر، وأن يحدد علاقتها الوثيقة بالعولمة. ويمكن القول إن الرائد الذي فجر قضية المخاطر ووضعها على قائمة جدول أعمال العلم الاجتماعي المعاصر هو إيرليش بك أستاذ علم الاجتماع الألماني. وقبل أن نمضي قدماً في عرض الموضوع فلنحاول تقديم تعريف موجز لمجتمع المخاطر: «مجتمع المخاطر هو نظرية اجتماعية تصف إنتاج وإدارة المخاطر في المجتمع الحديث». وركز بك على دور وسائل الإعلام الجماهيرية في الكشف عن المخاطر، ووصف ضروب المصالح السياسية والعلمية المتنافسة والخاصة بكيفية إدارتها. ولا يعني مفهوم مجتمع المخاطر بذاته أنه مجتمع تزيد فيه معدلات الخطر، بقدر ما يعني أنه مجتمع منظم لمواجهة المخاطر، لأنه مشغول بالمستقبل وبالأمن في شكل متزايد، وهو الذي ولّد فكرة الخطر. وإذا كان البشر تعرضوا للمخاطر طوال تاريخهم المكتوب، إلا أن المجتمع الحديث معرض لنمط خاص من الخطر، والذي هو نتيجة لعملية التحديث ذاتها التي غيرت من التنظيم الاجتماعي. وإذا كانت هناك مخاطر نتيجة لأسباب طبيعية كالزلازل والفيضانات، والتي لها آثار سلبية على الناس، إلا أن المخاطر الحديثة من ناحية أخرى هي نتاج النشاط الإنساني في الأساس. وقد ترتب على نشوء المجتمع الصناعي بما يتضمنه ذلك من استخدام واسع للآلات في المصانع والمزارع في البدايات الأولى له، وتطوير الاعتماد على التكنولوجيا التي غزت في الواقع كل ميادين الحياة، ظهور أنواع شتى من المخاطر لم تكن معروفة من قبل. ويمكن القول إن توفير الضمانات الكاملة للناس مسألة تكاد أن تكون مستحيلة. غير أنه من ناحية أخرى لا ينبغي المبالغة في إبراز المخاطر، لأن المجتمع الصناعي قد وفر للناس إلى درجة كبيرة أماناً اجتماعياً عالياًً. بل إن الخطر في حد ذاته يمثل مبدأ لتنشيط الطاقات الإنسانية وخصوصاً في ما يتعلق باستكشاف عوالم وأسواق جديدة. ولكن ينبغي أن نتحدث في هذا المجال عن المخاطر المحسوبة في أي نشاط إنساني، وسبل الوقاية المتوافرة. غير أنه يمكن القول إن وجود المخاطر يستدعي ترشيد عملية صنع القرارات الصناعية والتكنولوجية والاقتصادية. ويمكن القول إن عدد الأموات أو الجرحى في الحوادث التي تترتب على المخاطر ليس الذي يجعل من بعض هذه الحوادث موضوعاً سياسياً، ولكن ظهر أن التطور الصناعي الذي أدى إلى اختراع الأجهزة التكنولوجية الضخمة التي يمكن أن تتولد منها مخاطر محتملة، هي التي جعلت المخاطر موضوعاً سياسياً. ولعل ما يضيء الجوانب المعتمة في موضوع علاقة المخاطر بتطورات المجتمع الصناعي تعقب التاريخ السياسي والمؤسسي له، باعتباره مجموعة قواعد نشأت من خلال صراعات متعددة للتعامل مع مخاطر هذا المجتمع وضروب عدم الأمان التي صاحبت تطوراته المتعددة. وترتب على اتساع مجالات المجتمع الصناعي واقتحام مجالات مستحدثة مثل غزو الفضاء وغيرها أن نشأت الحاجة إلى تنمية طرق حساب المخاطر الذي اجتمعت العلوم الطبيعية والهندسية والاجتماعية لاستحداث مناهج منضبطة لقياسها، لأن هناك قرارات سياسية واقتصادية وتكنولوجية ومالية بالغة الأهمية سيتوقف إصدارها على دقة حسابات المخاطر. ويمكن القول إن هناك ثلاثة أنواع من المخاطر وهي المخاطر المصنعة والمخاطر البيئية والمخاطر الصحية. ليس أمامنا مجال لتفصيل المخاطر المصنعة لأنه سبق لنا أن أشرنا إليها حين ربطنا ازدياد المخاطر في المجتمع الحديث بالتطور الصناعي والتكنولوجي الهائل الذي أدى إلى اقتحام ميادين جديدة غير مسبوقة، مثل المفاعلات الذرية وغيرها. أما المخاطر البيئية فيعود جزء كبير منها إلى التدخل الإنساني في مجال البيئة الطبيعية ونأتي أخيراً إلى المخاطر الصحية وأبرزها ولا شك ظهور أمراض جديدة تأخذ شكل الأوبئة مثل الإيدز بالنسبة الى البشر من ناحية وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والخنازير من ناحية أخرى. وصاغ عالم الاجتماع الألماني ايرليش بك نظرية متكاملة أطلق عليها مجتمع المخاطرة العالمي World Risk Society تذهب إلى أنه من جماع المخاطر المتعددة المصنعة والبيئية والصحية تشكل ما يطلق عليه مجتمع المخاطرة العالمي. ويخلص علماء الاجتماع من كل ذلك إلى أن مستقبل الأفراد الشخصي لم يعد مستقراً وثابتاً نسبياً كما كانت الحال في المجتمعات التقليدية، ولذلك فإن القرارات مهما كان نوعها واتجاهها، أصبحت تنطوي الآن على واحد أو أكثر من عناصر المخاطرة بالنسبة للأفراد. وليس هناك شك في أن أحد أسباب بروز مجتمع المخاطرة العالمي هو العولمة بتأثيراتها على مجمل العالم. لأن الأخطار تنتشر بصرف النظر عن الاعتبارات الزمانية والمكانية كما رأينا في انتشار مرض الإيدز، أو جنون البقر، أو أنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير. * كاتب مصري