أحد المداخل الأساسية لمعالجة أزمة الحوثيين في اليمن هو، المدخل الإدراكي، إذ يوجد تباين كبير في إدراك كل من الدولة والحوثيين لطبيعة الأزمة والخلاف القائم بينهما، ما ينعكس بدوره على السلوك فيؤدي إلى الصدام ثم يتكرر لاحقاً في التسلسل ذاته. قبل خمس سنوات، أي قبل نشوب أول مواجهة مسلحة بين الجانبين، كان الموقف اليمني الرسمي يتخندق حول نفي وجود مشكلة تتعلق بالحوثيين، فيما تأكد لاحقاً أنه تهوين للمشكلة وتقليل من شأنها. ومع تكرار الأزمة واتخاذها أبعاداً أوسع، انتقلت السلطات اليمنية إلى مرحلة الاعتراف بوجود أزمة أو مشكلة ما، لكنها اعتبرتها مجرد رغبة في التمرد على الوضع القائم لتحقيق مطالب غير مشروعة وغير مستحقة. أما التوصيف الأخير وهو القائم حالياً، فهو أن تلك المجموعة متمردة وتسعى إلى قلب نظام الحكم في اليمن وإعادة حكم الإمامية الزيدية الذي انتهى في عامي 1962 و1963. وفي المقابل فإن تشخيص الحوثيين للمشكلة مختلف إلى حد بعيد، فهم يعتبرونها نابعة من سياسات الحكومة اليمنية وطريقة تعاطيها، وأن الطائفة الزيدية عموماً والحوثيين خصوصاً، يتعرضون لتمييز واضح واضطهاد من السلطات والأجهزة الرسمية. وبالتالي فإن المشكلة ليست لديهم وإنما لدى الدولة، وأن كل مطالبهم تنحصر في رفع التمييز ومنح الزيديين بمن فيهم الحوثيون حقوق المواطنة الكاملة، بما يعني إجراءات وخطوات تمس مختلف مجالات الحياة بشقيها الديني والدنيوي، مثل حرية التعبد وممارسة الطقوس الدينية وإطلاق الشعارات، ومباشرة الحقوق السياسية في شكل علني ومشروع. إضافة إلى مطالب تنموية واقتصادية تتعلق بطبيعة الأوضاع الصعبة التي يعيشها المواطنون في محافظة صعدة. من هنا فإن تباين التشخيص (المترتب أصلاً على تباين الرؤى والإدراكات) من شأنه تقليل فرص إيجاد تسوية نهائية ودائمة لمشكلة الحوثيين، خصوصاً أنها في شق كبير منها، ليست متعلقة بمطالب أو أوضاع تتعلق بالحوثيين حصراً، وإنما باليمنيين ككل. فعلى سبيل المثال لا تختلف المشكلة من وجهة نظر الحوثيين سواء في تشخيصها وتوصيفها أو في مطالبهم إزاءها، عن مواقف ورؤى جماعات وقوى المعارضة اليمنية عموماً، خصوصاً في الجنوب، أي أن المطالب والمواقف متشابهة إن لم تكن متطابقة، مع استثناء تلك الخاصة بالجانب المذهبي لدى الحوثيين والزيدية المتمركزين في المناطق الشمالية. إذاً، جوهر المشكلة بين السلطات اليمنية والحوثيين أعمق كثيراً من الأسباب المباشرة الظاهرة لنشوب أزمة سياسية أو اندلاع معركة عسكرية، ذلك أن تباين تشخيص القضية برمتها من جانب كل طرف، يخفي وراءه فجوة واسعة تفصل بين رؤية وإدراك كل منهما، ليس إلى الأزمات والتوترات المتتالية بينهما وحسب، بل إلى وضعية وموقع كل طرف من منظور الطرف الآخر، ما يكشف بذاته عن أزمة أخرى داخل العقل المحرك لكل جانب، أزمة فكرية داخلية قوامها خلل في الإدراك وبالتالي في طريقة تعاطي كل من الدولة اليمنية والحوثيين مع الآخر، لكنها أزمة متوارية وراء الخلافات والمواجهات. وهناك مؤشرات ودلائل على وجود تلك الأزمة؛ ففي جانب صنعاء تعاني الدولة من مشكلات مشابهة وتوترات مع أطراف وقوى أخرى، أبرزها توتر العلاقة مع بعض قوى المعارضة خصوصاً في الجنوب، فضلاً عن تذبذب العلاقة بين الدولة والقبائل. وغالباً ما كان القاسم المشترك بين تلك الخلافات هو فجوة في الرؤى وتباين، إن لم يكن تناقض توصيف الخلاف أو المشكلة بين السلطات من جهة والقوى الأخرى المختلفة معها في الجهة المقابلة. فالسلطات اليمنية تنظر إلى أي مطالب أو تطلعات أو حتى آراء مخالفة، باعتبارها مساعي انقلابية وتوجهات هدامة، على رغم أن قوامها الأساس هو في معظمه تحسين لطريقة توزيع الموارد، أو توسيع وتعميق للمشاركة السياسية. وينطبق الأمر ذاته على العلاقة بين السلطات اليمنية والقوى الاجتماعية التقليدية، أي القبائل والعشائر، التي تشهد تحولات مستمرة بين التعاون والخلاف، بحسب مدى اقتراب مواقف القبائل من سياسات الدولة وتوافقها مع الحسابات الرسمية تجاه القوى الأخرى أو ابتعادها عن ذلك. وفي ما يتعلق بالحوثيين، يعود الخلل في إدراك الدولة اليمنية إلى سنوات طويلة مضت، فقد تحولت علاقة أجهزة الدولة بالحوثيين أو بالأحرى رؤيتها لوضعية تلك الجماعة في المنظومة الداخلية، من النقيض إلى النقيض في شكل جذري؛ ففي بدايات تشكل حركة الحوثيين الدينية والفكرية، لقيت دعماً وتأييداً من الدولة، بل كان رموز الحركة ومؤسسوها من أبناء بدر الدين الحوثي يترشحون في الانتخابات التشريعية عن حزب المؤتمر الشعبي الحاكم (كان حسين الحوثي نائباً في البرلمان لدورتين متتاليتين في 1993 و1997). وكان ذلك "التعاون" في سياق رغبة النخبة الحاكمة والقوى اليسارية والعلمانية اليمنية في تحجيم المد الإسلامي السلفي خصوصاً، وموازنة الدور المتزايد للتجمع اليمني للإصلاح، أقوى وأكبر القوى السياسية المعارضة، وهو حزب إسلامي. فكانت علاقة الدولة مع الحوثيين أقرب إلى علاقة التبني والاحتضان، وليس الإقصاء واللفظ كما حدث لاحقاً. ثم اجتمع عاملان أحدثا تحولاً في إدراك وتعامل الدولة اليمنية مع الحوثيين: الأول، هو تحسن نسبي في العلاقة بين أجهزة الدولة والتجمع اليمني للإصلاح، ما قلل حاجة الدولة إلى الاستعانة بالحوثيين وتحمل أعباء تقويتهم. والثاني هو التحولات التي طرأت على توجهات الحوثيين، بدءاً بالتسييس الكامل لنشاطهم، مروراً بالاقتراب من المذهب الاثني عشري وبعض الأفكار القديمة للثورة الإيرانية (التي تخلت إيران ذاتها عنها)، وانتهاء بتبني مطالب واضحة ومحددة تتعلق بوضع الحوثيين والزيديين عموماً في الخريطة اليمنية السياسية والتنموية والاجتماعية. ولا يعد هذا التفسير لتحولات الموقف الرسمي من الحوثيين نفياً لأزمة الإدراك، بل هو تأكيد لوجودها، فالشاهد هو ارتباط الرؤية والموقف بمصالح آنية ضيقة، وليس باعتبارات استراتيجية أو مصالح وطنية عامة، فضلاً عن غياب التوازن المفترض في التعامل مع القوى السياسية والاجتماعية بغض النظر عن كونها معارضة أو موالية. وبينما تبدو إشارات الخلل داخل نطاق جماعة الحوثيين، في تغير طبيعة نشاطها ومنطلقاتها الفكرية وتوجهاتها السياسية وكذلك بعض أفكارها الدينية (المذهبية) تحديداً، في أقل من ربع قرن منذ ظهرت تلك الجماعة إلى العلن في صورة تنظيمية عام 1986، فقد تحولت الجماعة من مجرد حركة اجتماعية/ دينية إلى منتدى تربوي إلى اتحاد شبابي، ثم انتقلت إلى الساحة السياسية كحزب، وراحت تمارس السياسة، لكن مع الاقتراب دائماً من الدين ووضعه كمرجعية وحيدة في التفاعلات والمواقف السياسية وفقاً للمذهب الزيدي. وفي مرحلة لاحقة حدث تحول في الفكر الديني للجماعة فاقتربت من المذهب الإثنى عشري، ما أحدث انشقاقات وانقسامات داخلية بين رموزها ومؤسسيها. هناك، إذاً، خلل جذري في الإطار الفكري والعملي الحاكم لطريقة إدارة كل طرف في الصراع مع الآخر. وهو خلل كامن حيناً وظاهر أحياناً. والمهم أن هذا الخلل هو السبب الأصلي، ليس فقط لتفاقم الأزمات وتكرار اندلاع المواجهات المسلحة في ما يبدو سلسلة متصلة من سوء التقدير، إلى محدودية التفكير إلى ضبابية التشخيص، ما يسلم المسألة برمتها في النهاية إلى عشوائية في التخطيط ومن ثم تخبط في التنفيذ. وهو ما يفسر توالي المواجهات وتشابهها من دون أفق واضح للحسم، ومن دون انتباه أي طرف إلى أن ثمة خللاً ذاتياً في إدراكه ينبغي تداركه. * كاتب مصري