نالت رواية «الأجرام السماوية» The Luminaries الرائعة جائزة «مان بوكر» المرموقة لعام 2013. رواية في 834 صفحة، كاتبتها إليانور كاتّون شابة نيوزيلندية في الثامنة والعشرين، وهذه روايتها الثانية. تدور أحداثها في عصر الملكة فيكتوريا، على الساحل الغربي جنوب نيوزيلندا حيث نشأت مدينة «هوكيتيكا» في حمّى التنقيب عن الذهب. تنقسم الرواية إلى اثني عشر جزءاً، في كل منها عدد من الأقسام، تعنون الكاتبة كلاً منها باسم جرم أو اثنين من الأجرام السماوية. وفي صفحة 533 توضح الكاتبة دلالة كل من هذه الكواكب، موحية بارتباطها بأحداث الرواية أو بشخصية أبطالها. تبدأ الأحداث في 27 كانون الثاني (يناير) 1866، وبعد الجزء الخامس تعود بنا إلى الماضي، إلى أيار (مايو) 1865، لتنتهي في الجزء الأخير في 14 كانون الثاني 1866، مغلِقة بذلك دائرة الأحداث المتداخلة والمعقّدة التي سردها. في ليلة عاصفة ينزل الاسكتلاندي «والتر مودي» من المركب، وفي الفندق يدخل على اجتماع يضمّ اثني عشر رجلاً، تجمع بينهم اسرار تتمثل في: وكر أفيون، بغي تتخدّر، غرق مركب، مخمور ميت، كنز مفقود، وشاب اختفى. أما شخصيات الرواية فهي: قس، سياسي، منقّب عن الذهب، صيدلي، مهرّب أفيون، مجرم محتال، بصّارة وسجّان. المنقّبون عن الذهب أوروبيون والعمال صينيون، وليس من أهل البلد الأصليين سوى «ماووري» واحد. كل منهم يعرف أمراً واحداً لا يعرفه الآخرون، وشيئاً فشيئاً يهتدي «مودي» إلى السرّ بواسطة تقارير متعدّدة مفكّكة. الرواية قائمة بالدرجة الأولى على التشويق. منذ مطلعها يقول «مودي» إنهم كانوا ثمانية في المركب حين أبحروا ولكن حين حطوا على الساحل كانوا تسعة. كذلك يلمّح «مودي» إلى رغبته في إخفاء ما حدث في المركب، ولكن يزعجه أن صندوق ملابسه وأوراقه اختفت مع المركب الذي كان قد غرق. ويختفي أيضاً صندوق في مركب آخر، فيجنّ جنون صاحبه، وحين استُخرج هذا المركب وفُتح الصندوق لا تجد فيه البغي «آنا» سوى فساتين قديمة تشتريها بثمن بخس. فنتساءل: لماذا جنّ جنون صاحب الصندوق؟ ووُجد الناسك ميتاً نتيجة تنشّقه كمية كبيرة من الأفيون مع أنه لا يتعاطى المخدرات، كما عُثر في كوخه على أربعة آلاف جنيه. من أين أتت؟ كيف؟ وفي ورقة أُحرق جزء منها، يهدي الناسك «آنا» نصف أمواله هذه. من أحرق الورقة؟ وكان الشاب «ستاينز» قد حصل على ذهب كثير من تنقيبه في منجم «أورورا» الذي ما لبث أن اختفت ارباحه بعد أن باع «ستاينز» المجرم المحتال «كارفر» نصف حصته؛ لماذا اختفت الأرباح، وكيف؟ ومن كان وراء ذلك؟ وبعد قضاء «ستاينز» ليلة مع البغي «آنا» يختفي فيما يُعثر على «آنا» في الطريق غائبة عن الوعي. وحين تنام «آنا» في منزل تاجر الافيون، يلاحظ أن طرف فستانها ثقيل، وبخفة وسرعة يفتقه ليكتشفه محشواً بسبائك ذهب. من أين أتت بها «آنا» وهي بغي فقيرة؟ من خيّطها في طرف فستانها؟ وحين تعجز «آنا» عن دفع ثمن غرفتها في الفندق، تتقدم «ليديا ويلز» لتدفعه عنها وتصطحبها إلى منزلها حيث تبقيها شبه سجينة، وتضعف «آنا» حتى تشبه هيكلاً عظمياً، فنتساءل: ماذا وراء تصرفات «ليديا»؟ لماذا ادّعى الشرير «كارفر» أنه يُدعى «فرانسيس ويلز» وقد سرق هوية ويلز ليثبت ذلك؟ بعد اختفاء «ستاينز» مدة طويلة من غير أن يُعرف عنه شيء، يكتشفه الصيني «تاوهير» في كوخ صديقه القديم الناسك «ويلز»، من أوصله إلى هنا؟ كيف؟ ولماذا؟ هكذا تشدّنا الرواية، لغزاً تلو لغز، على غرار رواية بوليسية طويلة، فلا يفكّ القارئ الألغاز إلا تدريجاً في أقسام الأجزاء الأخيرة من الكتاب حين ترجعنا الأديبة إلى عام 1865. فنعرف من قتل الناسك ولماذا، ومن أين أتت الأموال التي وُجدت في كوخه بعد موته، ومن خاط الذهب في فساتين «آنا» ولماذا، ولماذا أخذت «ليديا» «آنا» إلى بيتها الذي سجنتها فيه، وأين كان «ستاينز» حين اختفى، وكيف عاد؟ ومن تسبب في كارثة منجم «أورورا»؟ وما إلى ذلك من أسئلة غامضة نفهمها تدريجاً حين تعيدنا الأديبة إلى السنة التي سبقت الأحداث التي حصلت بين 27 كانون الثاني 1866 و12 أيار 1865. في المقطع الأخير من هذه الرواية الطويلة والمعقدة تربط «إليانور كاتّون» الخيوط الناقصة في قصتها، تساهم في ذلك كل جملة من جمل الحبكة: فنعرف ان «ستاينز» وقع من سريره وضرب رأسه، فغاب عن الوعي؛ أن «أنا» استيقظت مخدرة بتأثير الأفيون فوقعت في الشارع ولذلك اقتيدت إلى السجن؛ أن «كارفر» الذي دخل كوخ الناسك ورأى الورقة التي توصي ل «أنا» بالأموال هو الذي حرقها؛ وأن كارفر وليديا هما اللذان دسّا السم في الكحول التي شربها الناسك فمات نتيجتها، «فصعد ببطء ليجد مكان راحته الأخيرة بين النجوم» (ص 829). بهذا تنتهي الرواية. إلا أن ما يميّزها عن رواية بوليسية عادية هو، أولاً، براعة الأديبة في القص. فأحداثها تتداخل وتنتقل ما بين الماضي والحاضر، أو بين أحداث مختلفة تجرى في الوقت نفسه ويوضح كل منها ما كان غامضاً في عدد من الأقسام السابقة. كذلك ينتقل السرد بين أشخاص وأماكن مختلفة، بين مقهى الفندق ومناجم الذهب، بين المصرف وكوخ الناسك الميت، بين غرفة البغي وكوخ تاجر الافيون، تُحبك كلها من غير أن يضيع القارئ. وفي الأجزاء الستة الأخيرة تصبح الأقسام أقصر بكثير منها في الأجزاء السابقة ممهدة بذلك لنهاية هذه الرواية الطويلة. وببراعة، يربط السرد بين الأفلاك التي تمهّد أسماؤها لكل من أقسام الرواية وأجزائها. أول ما وصل «مودي» إلى نيوزيلاندا حاول ان يستدلّ على وضع النجوم كما كان يفعل في إنكلترا، إلا أنه وجد الوضع معكوساً: فالنجمة القطبية كانت تحت قدميه، وكل شيء هنا كان مقلوباً وعديم الشكل، فالأفلاك والأبراج التي يراها الناظر إليها من شمالي خط الاستواء لا تبدو مثلها للناظر إليها من جنوبي الخط. هل تودّ الأديبة أن ترمز بذلك إلى الاختلاف بين ما ظنّه أشخاص الرواية، وما أملوه، وبين ما حدث فعلاً؟ وفي غير موضع من الرواية تربط الكاتبة بين حركة الأفلاك والأحداث الجارية أو التي ستجرى. كأن تذكر، مثلاً، أن إدمان «آنا» الأفيون كان تحقيقاً لنوع من العدالة الكونية (ص261)، أو قول تاجر العمولات للثري والصيني: «الكائنات السماوية كلها تطلّ عليكما من نوافذها» (ص278). ثم إن الأديبة تقدم لنا أبطالها أشخاصاً أحياء: يتكلمون، يتصرفون، يشعرون كما لو أنهم أمامنا. تمكنت من ذلك بوصفها المفصّل الدقيق لشكلهم الخارجي، لملابسهم، نفسياتهم، عواطفهم وأفكارهم. فأياً كانت الشخصية، رئيسية أو ثانوية، تصفها وصفاً دقيقاً مفصلاً. تكتب عن « ستاينز» مثلاً، ما ترجمته: «كانت تفرحه أشياء غير محتملة أو غير عملية، كان يبحث عنها بإخلاص فرح طفل يلعب. حين كان يتكلم، تكلّم بطرافة وألم مثالي يجعلان الجميع يبتسمون؛ وحين كان صامتاً، تراءى لمن يتأمله أن خياله كان منهمكاً في أفكار مفيدة، لأنه كثيراً ما تنهّد، أو نكّس رأسه، كأنه يوافق شخصاً يحاوره لا يراه أحد غيره» (ص734). إلى جانب ذلك، تعكس الرواية صورة واضحة للبيئة السياسية والاجتماعية التي تدور فيها الأحداث. تشير إلى سرقة الانكليز أراضي الماووري، سكان نيوزيلندا الأصليين، حين اشتروها منهم بأسعار بخسة جداً، ثم باعوها بأضعاف الثمن، وحين اكتشفت فيها مناجم الذهب لم يكن للماووري، ملاّكها الأصليين، أية حصة فيها. وقد احتقرهم الإنكليز، وسمّوهم «متوحشين». كذلك كره عمال المناجم الصينيون أسيادهم الإنكليز، إذ اعتبروهم مسؤولين عن تجارة الأفيون وتفشّيها في الصين، وشعروا بأن عليهم أن يتّحدوا ضد السيد الأبيض لأن القانون يؤيد الأبيض ضدهم. فضلاً عن ذلك، تصوّر الرواية بدقة وتفصيل كيفية شراء كتل الذهب الصلبة من المنقّبين الذين يعرضونها على الشاري كي يفحصها ليرى مدى صفاء الذهب فيها، وخلوّها من الشوائب قبل أن يزنها ويأخذها. تحرس العملية كلها مجموعة من الشرطة تتأكد من وصول الثروة آمنة إلى شاحنة مصفحة لتصدّر بعد ذلك إثر الحصول على إذن رسمي بالتصدير. ختاماً، إن حبكة الرواية مبنية على الأسرار والمؤامرات، على تزوير الخطوط والتواقيع، على التنصت والاستدعاءات، على ظهور أناس فجأة من ماضي الأشخاص ويفضحونهم، على رسائل مسروقة واتصالات تأخّرت. كل ذلك يفضي إلى ما يقوله «مودي» من «انه لا ينبغي ابداً أن يعتبر المرء أن حقيقة غيره هي حقيقته هو». فهذه المعرفة الجزئية التي يعرفها كل من الأشخاص عن الشخصيات الأخرى تكوّن أحد أهم ألغاز الرواية.