في أوائل 2012 حذرتُ من مخاطر اعتبار الاصلاح الديني عند التيار الإسلامي أداة ومدخلاً للاصلاح السياسي. والعلاقة بين الاصلاحين هي التي ركز عليها أعداء التيار الإسلامي من العلمانيين الذين يضمون شريحة كبيرة من الناس الذين يرون الفصل بين الدين والدولة أو بين السياسي والديني وبين الدعوة والسياسة. وعلى رغم أنني شجعت التيار الإسلامي على أن يفصل تنظيمياً بين الدعوة والسياسة وأن يدخل السياسة بأحزاب سياسية، إلا أن هذا التيار أنشأ هذه الأحزاب حتى تكون قوته السياسية ترجمة وامتداداً لقوته الدينية قياساً على قوة الدين في نفوس المصريين. وهذه القضية يجب أن تناقش مرة أخرى على ضوء ما حدث بعد 30 حزيران (يونيو) 2013 حيث انقلب التأييد للتيار الإسلامي إلى حمى مناهضة له ومطاردة لرموزه واتهامات تحتاج إلى تحقيق علمي وأخلاقي، مما ترك الانطباع بأن هذا التيار قد يصلح للدعوة إلى الله ولكنه بحكم تكوينه لا يصلح للسياسة. والحق أن التيار الإسلامي يصلح لكل شيء إذا تسلح بأدوات النجاح وأرجو أن تكون هذه دعوة لكل التيارات الإسلامية في مصر والعالم لكي يجلسوا معاً لتحديد المصلحة الإسلامية العليا ومستوى الوعي بهذه المصلحة ومخاطر التطرف الديني وتحوله إلى احتكاك بالمجتمع وبالسلطة السياسية، وتطبيق القواعد على الملفات المختلفة التي يشتبك فيها التيار الإسلامي على امتداد العالم الإسلامي والفصل بين الاجتهادات الدينية والمصالح والمواءمات السياسية. التيار الإسلامي في مصر يعتنق الكثير من الاجتهادات الدينية وله أتباعه وهؤلاء هم معقل قوته. وكان رأيي أن يركز هذا التيار في المستوى البرلماني والمحليات وقدمت نصيحة مكتوبة أحذر مما حدث عندما قرروا الترشح للرئاسة لأنني أستطيع أن أرى الطرفين معاً، فقد تربيت في ما يسمى بالدولة العميقة في أرقى مدارسها الوطنية الجامعة وهي وزارة الخارجية وفي عصر توهج الوطنية المصرية في الستينات. وفي الوقت نفسه فإنني أعتز بكل من يتمسك بدينه وأشعر بالارتياح له، ولكنني - على الجانب الآخر - بحكم نشأتي ودراساتي، بخاصة القانونية والسياسية والقرآنية وتجربتي الواسعة في المطبخ الإسلامي السياسي، أدركتُ أن المسلم هو الأقرب من الإسلامي إلى عالم السياسة، كما أدركت أن الفصل بين السياسة وبين الدين أمر مستحيل. ولكن المقبول هو الفصل بين الدين والسياسة من منظور الاستغلال والتوظيف والنشاط والممارسة. فقد كان شيوخ الأزهر في صدارة الحركة الوطنية وضد الحاكم المستبد، ولذلك اخترق بعض الحكام صفوفهم ووظف منهم فقهاء للسلطان، ولكن بعضهم رفض أن يبيع الآخرة بالدنيا ونصح السلطان بأدب النصيحة الذي أوصى به الإسلام. وفي الحمى التي عاشتها مصر منذ الثلاثين من حزيران (يونيو) صور التيار الإسلامي وكأنه وحش غادر يستخدم الدين كما يستخدم الزيت والسكر لإيهام الناس بأنه الأولى بالدعم في الانتخابات. والحل ليس في محاصرة هذا التيار ولكن في توعية الناس وتوفير المعيشة الكريمة لهم وفي توعية التيار الإسلامي إذا أراد أن يشارك في العملية السياسية فهو جزء أصيل من المجتمع المصري، ولا بد من تدريب التيار الإسلامي والتيار العلماني على العيش المشترك وعلى رؤية المصلحة المصرية التي لا يختلف عليها أي تيار وألا يكون الناخب صيداً سهلاً لأي منهما ولذلك لا بد من أن نبدأ في برنامج التمكين السياسي للجميع فقد عانت مصر عندما استراح النظام لوجود التيار الإسلامي في السجون في وقت زعم فيه أنه يمارس الحياة السياسية ظلماً وبهتاناً ولكنه كان يمارس الظلم بالتواطؤ مع بعض النخب الحزبية والثقافية والأكاديمية والإعلامية التي استهدفت وعي الشعب وعقله ومصالحه. ومعنى ذلك أن التيار الإسلامي إذا كان ظن أن صلاحه الديني يؤدي بالضرورة إلى صلاحه السياسي أو أن تعلق الناس بدينهم يجعلهم يخلطون بين رجل الدعوة ورجل السياسة وأن دعمه في الانتخابات هو مقابل هذا الصلاح الديني، فإنه يكون قد أخطأ خطأ جسيماً، ولكنني في الوقت نفسه لا أقر بأن الصلاح الديني يؤدي بالضرورة إلى الانكسار السياسي، بل إن بعض نقاد هذا التيار يرون أن التدين يؤدي إلى السذاجة السياسية في ساحة لا تفوز فيها سوى الوحوش المفترسة والذئاب الكاسرة. وعندما حذرت من أن الصلاح الديني شيء والصلاح السياسي شيء آخر كنت أعبر عن الخشية من السقوط لأن لكل من الصلاحين نطاقه وشروطه، فالصلاح الديني يؤدي إلى التقوى والخوف من الله ومراعاة الضمير في التعامل ودعوة الناس إلى هذه الفضائل، لأنه لا يجوز للداعية أن يضلل الناس وأن يتاجر بعلمه وأن يوهمهم بأن صلاحه الديني مدخل إلى الصلاح السياسي وغيره. فالطبيب الصالح المؤمن يصبح مثالاً إذا كان عالماً في طبه ومهنته، ولكنه إذا كان مؤمناً بينما حظه من العلم قليل فإن الناس يقبلون على صاحب العلم الذي يقهر المرض بالعلم وليس على صاحب التقوى. يترتب على ذلك أن التقوى محلها القلب وكثرة الدعاء والعبادة، وهذا أمر محمود إذا كانت المسألة متعلقة بالدين، أما في عالم السياسة فإن الكفاءة والصلاحية السياسية هي المحك، ولذلك كان محلها العقل ومناطها الذكاء والخبرة. ويعلم التيار الديني بالضرورة أن المؤمن فطن والإيمان يضيء عقله لكي يدرك أن ظلم النفس هي تحميلها بأكثر مما تطيق أو إدخالها في مجال لا تصلح فيه. والذي حدث في مصر على وجه اليقين أن فشل التيار الإسلامي على مستوى الرئاسة قد وضع التيار كله موضع التقييم والمؤاخذة، بل إن في مصر من فقد عقله وإنسانيته فتطاول على هذا التيار بالباطل بل واعتدى اعتداءً وحشياً على بعض المنتقبات والمحجبات وأصحاب اللحى، وأنني أحلم أن يصل مجتمعنا إلى حالة يصبح فيها الملبس والمظهر من الحقوق الشخصية وألا يختلط عليهم وألا يكون ذلك الخيار سبباً في السخرية كما لا يجوز أيضاً من ناحية أخرى أن يعتبر أعضاء التيارات الإسلامية غيرهم من الملحدين والكفار لأن الدين الصحيح يقول إن الإيمان والكفر في القلب وهي علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه ولا وصاية لأحد على أحد ولكن الحاكم عليه أن يرعى التمتع بالحريات في حدود آداب المجتمع وقوانينه. ونظن أن مصر تعرضت لهزة كبرى في هذا المجال ضمن الفتنة التي ضربتها. فلم يكن من الخطأ أو العيب من جانب التيار الإسلامي أن يمد بصره إلى الرئاسة ولا يجوز أن يفسر ما حدث على أنه انتصار للعلمانية المناهضة للدين على الإسلام أو أن هزيمة التيار الإسلامي هي خلع للرداء الإسلامي عن مصر. فالإسلام في مصر هو الحضارة وهو امتداد لحضارة المصريين القدماء وليس نقيضاً لها. وهذه الحضارة تُظل المسلم والمسيحي والأجنبي في سبيكة مصرية نقية أبرزت ثورة 25 يناير أكبر تجلياتها، وهي ومضة نادرة أفرغت المصريين من ذواتهم لأيام عدة، فلما تركوا السبيكة تبرد من دون صياغة وتشكيل توزعت السبيكة مرة أخرى على ذواتنا فعدنا يضرب بعضنا رقاب بعض بدلاً عن التضامن والتحاب من أجل البناء. باختصار، لقد ذهب الصلاح الديني بسبب عدم الصلاح السياسي، فوجد التيار الإسلامي نفسه مشكوكاً في دينه وفي ذمته وفي سلوكه السياسي. إذا صح هذا الوصف والتحليل، وإذا كان إقصاء التيار الإسلامي والتمادي في حربه مريحاً للبعض، فإننا ننبه إلى أنه بالغ الضرر لمصر التي تتناتشها الأهواء وتتربص بها الدوائر، ولا يمكن أن يكون الحل هو استبعاد جزء مهم من جسد هذه الأمة، إما بدفعه إلى التمترس في المساجد أو بإقصائه من الدنيا أو وضعه في السجون، فقد أنهت ثورة 25 يناير هذا الهاجس ولا بد من مواجهة شجاعة لهذه القضية بعد أن تم تشويه صورة الإسلامي والليبرالي والعلماني وقام إعلامنا بدور هائل في هذا التلبيس. وأخيراً الصلاح الديني لا يؤدي بالضرورة إلى الصلاح السياسي أو عدم الصلاح السياسي، ولا ضير أن يقترن الاثنان، وهذه مهمة العقلاء والمصلحين في عصر عز وجودهم ويطاردهم إرهاب الحمقى والجهلاء والموتورين. * كاتب مصري