خلال رحلته في حقل الدراسات التاريخية باحثاً، أستاذاً، محققاً ومؤلفاً، وعلى مدار 65 عاماً، عندما سئل سعيد عبد الفتاح عاشور عن تعريفه لمهنة المؤرخ أجاب بأنها البحث في أصول التاريخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية واضحة نقية من دون نقص أو زيادة. ويلزم المؤرخ هنا الأمانة والدقة في أحكامه بمعنى ألا يخضع لأي اعتبارات سياسية أو غير سياسية، وأن يتجرد من ميوله وعواطفه ونزعاته الدينية والعرقية والوطنية، إذ يجب أن يكون المؤرخ قاضياً عادلاً خصوصاً أنه يحكم على عصور وأعمال وأفراد ربما غابوا عن مسرح الحياة ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ولزاماً عليه أن يتجرد من عواطفه وأن ينتصر للحقيقة ناصعة. وكان عاشور الذي غيبه الموت قبل أيام عن عمر يناهز سبعة وثمانين سنة، لا يعترف بما اصطلح بعضهم على تسميته ب «التاريخ المعاصر» أي تاريخ الفترة والأحداث التي نعاصرها ونعايشها، لأن هذه الأحداث يمكن أن تدخل مجال علم السياسة وليس مجال علم التاريخ. والسبب كما يرى «شيخ المؤرخين»، أن الصورة الكاملة للأحداث لا يمكن أن تكتمل في حياة صانعيها إذ إننا نرى كل يوم أحداثاً وتطورات لمواقف معينة لمن يمكن أن نطلق عليهم «صانعي التاريخ» ولكننا لا نعرف كل شيء، وهناك من الخفايا والأسرار لا يزال مستتراً وسيظل هكذا لفترة طويلة، ما يجعل المؤرخ عاجزاً عن تقويم هذه الأحداث والتطورات. ومن ناحية أخرى، فإن التاريخ يثبت لكل عصر ولكل نظام ولكل حكم، أشياعه وأنصاره؛ وأشياع الحاكم في أي عصر تاريخي هم المنتفعون وهؤلاء لا يمجدون الحاكم في حياته حباً به ولكن حباً بأنفسهم. وهكذا لا يمكن للمؤرخ الأمين الصادق أن يرى الصورة المعاصرة واضحة ومكتملة أمامه. وقد اختلف عاشور مع كثيرين من المؤرخين والمؤسسات التي تبنت في فترة زمنية معينة فكرة «إعادة كتابة التاريخ الإسلامي»، فهو كان يرى أن التاريخ الإسلامي بخير لعكوف أئمة المؤرخين والباحثين على تدوينه على مر التاريخ. كما أن علم التاريخ عند المسلمين في العصور الوسطى فاق ما كانت عليه كتابة التاريخ في أي مكان في العالم إذ، وفق عاشور، فيما كانت كتابة التاريخ في غرب أوروبا محصورة في الحوليات التي تدون في الأديرة والمؤسسات الكنسية، نجد مؤرخاً مثل الطبري يدون موسوعته «تاريخ الرسل والملوك» في عشر مجلدات ضخمة تستغرق آلاف الصفحات. ورأى سعيد عاشور أن التاريخ الإسلامي كان يؤخذ عليه ما كانت تعاني منه الكتابة التاريخية عموماً وهو تحيز المؤرخ أحياناً لبعض ميوله العاطفية، وتعدد الروايات التاريخية لذلك كان يرى أن مهمة المؤرخ هي غربلة ما جاء في كتب التاريخ ومناقشته ومحاولة الوصول إلى الحقيقة التاريخية. وأسهم عاشور بجهد كبير في عملية تحقيق التراث التي شهدت نشاطاً ضخماً منذ مطلع القرن العشرين وحتى سنوات الستينات، إذ قامت «دار الكتب المصرية» بتحقيق ونشر عدد كبير من الموسوعات التاريخية والأدبية، ومن إسهاماته في هذا المجال: تحقيق الجزءين الثالث والرابع من كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزي، وتم طبعهما ونشرهما في دار الكتب المصرية عام 1970، وقام بتحقيق كتاب «غاية الأماني في أخبار القطر اليماني» والجزء السابع من كتاب «كنز الدرر» لابن أيبك، والجزء السابع والعشرين من كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري، وكتاب «الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين» لابن دقماق. وتفرغ عاشور تفرغاً تاماً للحياة العلمية، مؤثراً الابتعاد عن المناصب الإدارية، وشغل منصب أستاذ كرسي تاريخ العصور الوسطى في وقت لم يوجد فيه سوى كرسي واحد في هذا الفرع من فروع التخصص في جامعات مصر والعالم العربي، وأشرف على أكثر من ثلاثين أطروحة ماجستير، وخمسة وعشرين أطروحة دكتوراه، يشغل أصحابها من تلاميذه اليوم مناصب عمداء ووكلاء كليات ورؤساء أقسام وأساتذة في جامعات مصر والعالم العربي، كما شارك في مناقشة عدد كبير من الأطروحات العلمية، بالإضافة إلى حضور الكثير من المؤتمرات والندوات العلمية في أوروبا والوطن العربي. واختاره المؤرخون العرب رئيساً لاتحادهم عام 1991 والذي ضم صفوة المشتغلين بالتاريخ، فسعى إلى إحياء التراث العربي وتنقيته مما لحق به من شوائب ومغالطات، وإعادة النظر في تاريخ العالم العربي عموماً وغربلته وإبرازه في صورة واضحة وسليمة، وإلقاء الضوء على دور الحضارة العربية الإسلامية في شتى جوانبها وذلك من خلال ندوة الاتحاد التي تعقد بصفة سنوية، وكذلك مجلة الاتحاد التي تضم أبحاثاً بأقلام الباحثين والمؤرخين من مختلف الجامعات العربية. ويُعد عاشور صاحب مدرسة متميزة في تاريخ العصور الوسطى وأحدث ثورة فكرية في هذا التخصص إذ كان المؤرخون السابقون له يسردون الحوادث التاريخية سرداً مملاً يتصف بالإسهاب والنقل من المصادر التاريخية من دون نقد أو تمحيص، وتمثل منهجه في تحليل الروايات التاريخية وتنقيتها والتأكد من صحتها، واستخدم منهجاً يهتم بدراسة الوقائع التاريخية من الزوايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من مؤلفات سعيد عاشور: «المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك»، 1992، دار النهضة العربية - «الحركة الصليبية» (جزءان)، الطبعة الرابعة، 1986، مكتبة لأنجلو المصرية - «العصر المماليكي في مصر والشام»، 1965، دار النهضة العربية - «أوروبا العصور الوسطى» (جزءان)، الطبعة الرابعة، 1984 - 1991، مكتبة لأنجلو المصرية - «الأيوبيون والمماليك في مصر والشام»، الطبعة الرابعة، 1990، دار النهضة العربية - «المدنية الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوروبية»، الطبعة الثانية، 1982، دار النهضة العربية - «بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته»، 1987، عالم الكتب - «بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى»، 1977، جامعة بيروت العربية - «حضارة الإسلام»، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية، 1988 - «السيد أحمد البدوي»، العدد 58 في سلسلة أعلام العرب، 1966، وزارة الثقافة - «الظاهر بيبرس»، العدد 14 في سلسلة أعلام العرب، 1963، وزارة الثقافة - «الناصر صلاح الدين»، العدد 41 في سلسلة أعلام العرب،1965، وزارة الثقافة - «مصر في العصور الوسطى»، بالاشتراك مع عبد الرحمن الرافعي، 1970، دار النهضة العربية - «النهضات الأوروبية في العصور الوسطى»، 1960، مكتبة النهضة المصرية - «مصر في عصر دولة المماليك البحرية»، سلسلة الألف كتاب، العدد 227، 1959. الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى، 1959 - «النهضات الأوروبية في العصور الوسطى»، 1960، مكتبة النهضة المصرية - «قبرص والحروب الصليبية»، 1957، مكتبة النهضة المصرية. وكان ميلاد عاشور في القاهرة في 30 تموز (يوليو) 1922، وحصل على شهادة المرحلة الإبتدائية عام 1934 من مدرسة المنيرة الإبتدائية، ودرس المرحلة الثانوية في مدرستي السعيدية ثم مدرسة القبة وحصل على شهادة الثقافة العامة عام 1939 ثم حصل على شهادة التوجيهية (الثانوية العامة حالياً) عام 1940، والتحق بكلية الآداب - قسم التاريخ - جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة في ما بعد) عام 1940 ونال درجة الليسانس بامتياز عام 1945، وحصل على الماجستير مع مرتبة الشرف عام 1949 عن أطروحته «قبرص والحروب الصليبية»، وتناولت رسالة الدكتوراه «الحياة الاجتماعية في مصر في عصر سلاطين المماليك» ونالها أيضاً بمرتبة امتياز عام 1954، وتولى الإشراف عن أطروحتي الماجستير والدكتوراه الدكتور محمد مصطفى زيادة حينذاك.عين مدرساً في قسم التاريخ في كلية الآداب - جامعة القاهرة عام 1955، وأستاذاً مساعداً عام 1950، وأستاذاً عام 1967، وأستاذاً لكرسي العصور الوسطى عام 1969. ونال عاشور جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 1963، وفي العام نفسه نال وسام الجمهورية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية عام 1996.