أطلق الرئيس الأميركي باراك أوباما من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع عقيدة أميركية جديدة ذات شقين أساسيين: شق فلسفة العمل الديبلوماسي والسياسي الجماعي العازم على اعتماد الحوار والانخراط كنقطة انطلاق لمعالجة المسائل والقضايا الدولية المستعصية. وشق إبلاغ الصين بالدرجة الأولى ثم روسيا وبقية العالم تخلي الولاياتالمتحدة عن طموحات احتلال منصب الدولة العظمى الوحيدة في العالم والتراجع عن عقيدة «الاستباقية» التي تبنتها إدارة جورج دبليو بوش كاستراتيجية لتعزيز الموقع والمكانة الأميركية عالمياً، وتضمنت صراحة السعي لمنع الصين من مزاحمة الولاياتالمتحدة على الاستفراد بالعظمة. العالم ما زال يمضغ فكرة العقيدة الجديدة ويحاول أن يتمعّن في معانيها إذ ليس بأمر بسيط ان يبلّغ رئيس أميركي العالم أنه رسم سياسة تضع الدولة العظمى الوحيدة في صف واحد مع بقية الدول الكبرى. هذا يعني أن باراك أوباما حسم الهوية الأميركية بعد مرور عقدين على انتهاء الحرب الباردة لتكون اعترافاً بفشل القطب الواحد ولتعكس تواضعاً أميركياً وكذلك تحجيماً للتطلعات والمخاوف من تفرد أميركا بمرتبة العظمة. وهذا سيسبب مشاكل داخلية للرئيس الأميركي لا سيما ان الانقسام الأيديولوجي يزداد حدة داخل الولاياتالمتحدة. انما أيضاً على الصعيد العالمي، هز هذا «الانقلاب» المفاهيم اهتزازاً في ثقة بعض الدول التي تجد في المواقف الأميركية الجديدة تراجعاً عن تعهدات ووعود استراتيجية. كما هناك من يخشى إساءة تفسير انتفاضة أوباما ليعتبرها اما شهادة على ضعف أميركا، فيقرر الاستهانة بها والتطاول عليها ولربما أيضاً استفزازها والاعتداء عليها، وإما يعتبرها مرحلة عابرة وخطيرة على الرئيس الأميركي لأن هناك داخل الولاياتالمتحدة من يختلف جذرياً مع هذه الأيديولوجية ويريد إحباطها. لذلك، ان العالم يراقب بحذر ويخشى الرهان على نجاح أو فشل النظام الدولي الجديد الذي يعمل عليه الرئيس الأميركي الجديد. والبعض خائف من مثالية إدارة أوباما في زمن السياسة المحنكة كتلك التي يتبعها أمثال إسرائيل وإيران وسورية وروسيا، وفي زمن الاستراتيجية الأيديولوجية التي رسمتها دول كبرى كالصين. خطاب أوباما من المنبر الدولي كان طويلاً وفلسفياً ولاقى الاهتمام والترحيب من أوساط عدة لكنه افتقد التفاصيل التي تطلع اليها الكثيرون، والسبب هو الحذر الذي يميّز إدارة أوباما والرغبة في الإرضاء والعزم على تجنب المواجهة. كلامه نحو إيران وكوريا الشمالية كان قوياً إذ تحدث عن «المحاسبة» وعن ضرورة وقوف العالم معاً «ليثبت ان القانون الدولي ليس مجرد تعهد فارغ وان المعاهدات سيُفرض تنفيذها». قال «يجب أن نصر على ألا يمتلك الخوف المستقبل» وان السنة المقبلة ستكون «حاسمة» لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية إذ اما «يتم تعزيزها وإما تتلاشى تدريجياً». تحدث بحزم عن «الدول التي ترفض التقيد بالتزاماتها» إذ «يجب أن تواجه بالعواقب». قال متحدثاً عن إيران وكوريا الشمالية «إذا اختارتا تجاهل المقاييس الدولية، يجب أن تحاسبا». ما لم يأتِ الرئيس على ذكره أتى على لسان اما رؤساء أوروبيين أو على لسان وزير خارجية السويد باسم الاتحاد الأوروبي. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قال ان الإيرانيين «سيرتكبون خطأ فادحاً» إذا «راهنوا على عجز المجتمع الدولي ليواصلوا برنامجهم النووي العسكري» داعياً الى تحديد كانون الأول (ديسمبر) المقبل مهلة نهائية لإيران لإظهار تقدم في المحادثات مع الدول الخمس الدائمة العضوية زائد المانيا حول البرنامج الإيراني المشتبه به. ورئيس الوزراء البريطاني غوردون براون قال «بوضوح وبلا أي غموض، يجب على إيران وكوريا الشمالية ان تدركا ان العالم سيكون أكثر صرامة و «نحن سنكون على استعداد للنظر في عقوبات إضافية» مشدداً على ان «عبء الإثبات «يقع على أكتاف الدول المشكوك ببرامجها النووية. حتى روسيا تحدثت بلغة العقوبات ولم يستبعد أحد أعضاء الوفد الروسي الى الجمعية العامة «المشاركة في إعداد قرارات جديدة لمجلس الأمن حول قضية العقوبات»، مما دفع الناطق باسم البيت الأبيض للقول ان النية التي أبدتها روسيا لأداء دور بنّاء في الملف النووي الإيراني لها «أهمية بالغة». إنما البارز في موقف الاتحاد الأوروبي عبر وزير خارجية السويد، فردريك راينفلدت، هو ما قاله حول الوضع الداخلي في إيران في الوقت الذي تجنب فيه الرئيس الأميركي أية إشارة مماثلة. قال راينفلدت «كصديق لإيران، اننا قلقون من وضع حقوق الإنسان المتدهور ومن الحملة العنيفة ضد المظاهرات الشعبية». قال ان «المسألة النووية الإيرانية تشكل تحدياً كبيراً للأمن والسلم الدوليين وللاستقرار الإقليمي»، وان على إيران «أن تستعيد ثقة الأسرة الدولية وان تنفذ قرارات مجلس الأمن وأن تساهم في السلام في الشرق الأوسط». في الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي أيضاً، كان الموقف الأوروبي صريحاً في انتقاد تجاوزات إسرائيل وفي مطالبتها القيام بما يجب عليها القيام به. جاء في موقف الاتحاد الأوروبي «كصديق لشعب إسرائيل، نقول لحكومتها ان عليها السعي من أجل السلام، وإنهاء الاحتلال، واحترام القانون الدولي، والعمل من أجل حل الدولتين، وان تضع فوراً نهاية لجميع النشاطات الاستيطانية في الأراضي المحتلة بما فيها القدس، وان تنهي عزل غزة». الرئيس الأميركي من جهته لم يأتِ على ذكر ضرورة احترام القانون الدولي عندما تحدث عن إسرائيل لكنه حرص على تصحيح خطأ ارتكبه أثناء اللقاء الثلاثي الذي ضمه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عندما تحدث عن «ضبط» النشاط الاستيطاني. قال أمام الجمعية العامة أن «أميركا لا تقبل شرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية»، وان الوقت حان للعودة الى «مفاوضات – بلا شروط مسبقة – لمعالجة مسائل الوضع النهائي الأساسية: الأمن للإسرائيليين والفلسطينيين، والحدود واللاجئين والقدس»، مؤكداً على دولة فلسطينية «تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967 وتحقق للشعب الفلسطيني تطلعاته» جنباً الى جنب مع «دولة إسرائيل اليهودية بأمن حقيقي». طالب ان «تحترم إسرائيل المطالب والحقوق الشرعية للفلسطينيين» وان يكف الفلسطينيون عن «هجمات لاذعة» ضد الإسرائيليين وأن يعترفوا «بشرعية إسرائيل وحقها في الوجود في سلام وأمن». الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي يشكل امتحاناً مهماً للرئيس الأميركي شأنه شأن الموضوع الإيراني. نوايا إدارة أوباما قد تكون حسنة، انما طريقها الى صنع السلام الفلسطيني – الإسرائيلي مكدسة باعتزام حكومة نتانياهو على لعبة «تسجيل النقاط» أمام الإعلام وفي عيون الإدارة الأميركية ببالغ الصبيانية، متحصنة بلوبي قوي وبإعلام متسامح وبحنكة فن التملص من استحقاقات السلام الجدية. فحكومة نتانياهو لا تريد الانخراط الجدي في المفاوضات مع الفلسطينيين. قد تريد تحويل الأنظار مجدداً عبر إحياء فكرة إعطاء المفاوضات مع سورية الأولوية إنما أيضاً للاستهلاك على حساب المفاوضات الفلسطينية، وحكومة نتانياهو قد تجد في ايديولوجية وفلسفة أوباما ذخيرة لها لتحويل الضغوط عليه. فهي تتصرف على أساس أن إسرائيل مسألة داخلية أميركية ولها الحق برأي في الموقع والمكانة الأميركية عالمياً. ولأن حكومة نتانياهو تريد الاستفادة من الملف الإيراني، ستجد مادة مفيدة لها في أسلوب أوباما الإرضائي القائم على الحوار ثم الحوار وبعد ذلك العقوبات التدريجية. حكومة ايران من جهتها لن تساعد أوباما في مسعاه لأن مفهومها وعقيدتها وأيديولوجيتها تتناقض مع مفهومه وعقيدته وأيديولوجيته. فالرئيس الأميركي خاطب العالم من منبر الأممالمتحدة قائلاً «لا يجوز لأية دولة أن تفرض هيمنتها على دول أخرى». في المقابل، ان النظام الإيراني عازم على فرض الهيمنة في لبنان وفي العراق وعلى فلسطين عبوراً بعدة دول خليجية وصولاً الى اليمن – هيمنة بالسلاح وبالتخويف والتخريب وبالرعب، بالعنف وباستخدام الميليشيات، وليس عبر الترغيب والإقناع. روسيا قد تتحدث لغة مختلفة لكنها ستكون – كما تبدو اليوم – متعالية والى حد ما مغرورة بنفسها. فالقيادة الروسية تقرأ سياسة إدارة أوباما بأنها تصحيح وشبه اعتذار عن سياسة إدارة جورج دبليو بوش، لكن روسيا، في نهاية المطاف، لا يوجد ثقة دائمة بينها وبين الولاياتالمتحدة. ولذلك ستلعب أوراقها بحذاقة وبقليل من الإقبال على اعتناق الفلسفة الأميركية الجديدة وستأخذ خطواتها بكل حذر لتقيسها على مصالحها الثنائية والاستراتيجية. فروسيا ترى أن إدارة أوباما تساعدها على استعادة مكانتها التي أهدرتها الولاياتالمتحدة عندما ساهمت سياساتها في تفكيك العظمة الروسية بتفكيك الاتحاد السوفياتي. الصين أيضاً لن تتحدث لغة العقيدة الجديدة سوى بالقدر الذي يفيدها. فهي في صدد تعزيز قدراتها الاقتصادية وعلاقاتها النفطية ومكانتها في العظمة بعد انهيار العظمة الأميركية. لذلك ستعجبها اللغة الجديدة، وستستفيد من الدعوة الى العمل الجماعي، وسترحب بدفن العقيدة «الاستباقية» لكنها لن تقوم من جهتها بانقلاب أو بانتفاضة على النسق الأميركي.