في هذا الوقت من السنة، تعجّ الصحف الأميركية بالأحداث التي رسمت معالم العام 2013، بما فيها بالطبع الوقع الكبير الذي خلّفته تسريبات إدوارد سنودن. لكنّ مجموعة من المسائل حظيت باهتمام أقل، ومن بينها الوعي العام المتزايد للضرر الذي يلحق بالرياضيين جرّاء ارتجاج الدماغ، وبالجنود العائدين إلى ديارهم من الحربين في العراق وأفغانستان، وقد أصيب ما بين 20 و30 في المئة منهم باضطراب ما بعد الصدمة المرتبط بالقتال. وتُخلّف المشكلتان تأثيرات كبيرة لا تقتصر على نظام الرعاية الصحية، بل تشمل أيضاً تأثير حالات ارتجاج الدماغ على قطاع الرياضة الأميركي الذي يدرّ عائدات بملايين الدولارات، وتداعيات حالات اضطراب ما بعد الصدمة على المؤسسة العسكرية برمّتها، بدءاً بالمسائل المرتبطة بالموازنة، ووصولاً إلى طريقة شنّ الحروب الصغيرة في المستقبل. بات ارتجاج الدماغ أهمّ المسائل المتداولة في لعبة كرة القدم الأميركية، التي اخترعتها وطوّرتها الولايات المتحدّة، وقد حظيت بجمهور كبير يتابعها أسبوعياً على شاشات التلفزيون، التي يبدو وكأنها صمّمت من أجله، بفضل نموذج اللعبة القائم على بدء الحراك وإيقافه باستمرار في المباريات، ما يسمح بعرض الإعلانات في وقت الاستراحة. ويتنافس لاعبو كرة القدم الأميركية، الذين يعتمرون الخوذات، في الملعب مثل المصارعين، في لعبة تتطلب الكثير من التلامس بين اللاعبين، ولا تقتصر مهمّة الخوذات فيها على الحماية، بل تخدم أيضاً كسلاح هجوميّ ضد خصومهم. ويطرأ بنتيجة ذلك ارتجاج في المخ بعد أن يصطدم بعنف بالواجهة الداخليّة للجمجمة. غير أنّ معظم ارتجاجات المخ الحاصلة لم تحظَ بأي اهتمام إلا مؤخراً، وكانت تُعتَبر مجرّد حالات من الصداع أو خضّة. واليوم فقط، كشفت الإفادات المحزنة التي أدلى بها عدد من اللاعبين السابقين المعروفين أنّ هذا الارتجاج مسؤول عن إمكان التعرّض لفقدان الذاكرة، والخرف، وهي اصابات يمكن أن تستمر مدى الحياة، إلى جانب عدد من حالات الانتحار المأسوية، مع العلم بأنّه لم يتمّ تشخيص أي من هذه الحالات بالشكل المناسب إلا بعد تشريح جثة اللاعبين عقب وفاتهم. وفي نهاية المطاف، عمد ثلث لاعبي كرة القدم السابقين، خلال العام 2013، إلى رفع دعاوى ضد أصحاب الفرق الرياضيّة الأثرياء، لعدم مبالاتهم بهذا الموضوع. وأدى ذلك إلى تسوية، لكنّ هذه الأخيرة خدمت إلى حدّ كبير مصلحة أصحاب الفرق الذين لم يعترفوا بذنبهم، فيما وصلت الغرامات التي فُرِضت على اللاعبين، وحتى المصابين بمرض ألزهايمر بينهم، إلى 5 ملايين دولار. لكنّ من غير المرجّح أن تنتهي المسألة عند هذا الحد. ففي المدرسة، سيحرص عدد متزايد من الأهالي القلقين على تحويل اهتمام أولادهم إلى مباريات كرة القدم التقليدية الأقلّ خطورة بكثير. وعلى صعيد اضطراب ما بعد الصدمة، تمّ إحراز تقدّم ملحوظ جدّاً في العام 2013، على صعيدَيْ التشخيص والعلاج. وبعد أنّ تمّ اعتباره مجرد «تعب ناجم عن المعارك»، يضطر الشعب الأميركي اليوم إلى مواجهة أدلّة متزايدة تفيد بأنّه يخلّف تبعات على المدى الطويل، بما يشمل الاكتئاب وفقدان الذاكرة، ويؤدي أحياناً إلى ارتكاب جرائم صغيرة، ناهيك عن تأثيراته الاجتماعية في الحياة العائلية، وفي تربية الأولاد، وعلى صعيد عدم التمكّن من البقاء في الوظيفة. وكي تتمّ معالجة هذه المسألة، تمّ توسيع نطاق المحاكم الخاصة الموكَلة بتقديم علاج للمحاربين «القدامى»، مع الإشارة إلى أنّ أوّل محكمة من هذا القبيل تأسست في العام 2008 على يد قاضٍ في منطقة بافالو في نيويورك. وقد خطرت آنذاك فكرة لهذا القاضي، الذي كان يترأس المحكمة المولجة تقديم علاج ذهني، حين واجه قضية جندي شارك في حرب فيتنام، لم يتسنَّ له أن يشارك في برنامج إرشاد، بعد أن خرق القانون في شكل طفيف. إلا أنه كان سريع الاستجابة عندما تحدّث إليه محاربان قديمان آخران كانا متواجدَين في المكان. وحتّى لو بدت الأمور على أنّها بالغة البساطة، فهي بلا أدنى شكّ جهود تقضي بمساعدة الجنود العائدين إلى ديارهم على المشاركة بالكامل في الحياة المدنية، بالتعاون مع آخرين أمثالهم ممّن يشعرون بالوحدة ويعرفون ما يعنيه خوض الحرب فعلاً، ويمكنهم أن يخبروهم بأسوأ تجاربهم. كما أنّ هذه المحاكم تتميّز بكونها تحظى بدعم من الرئيس أوباما. ويبقى طبعاً أن نرى ما سيكون عليه تأثير ذلك على نطاق أوسع. وفي المملكة المتحدّة، حيث يُعتَرَف أيضاً بالمعاناة التي يتكبدها الجنود في القتال، تكمن المشكلة في كيفية تمويل مراكز علاج جديدة، يعتمد بعضٌ منها على مجموعة من جمعيات المحاربين القدامى والمؤسسات الخيرية الخاصة المرتبطة بها. ومن الناحية الإيجابية، يتم توفير العلاج للجنود، بغض النظر عن عمرهم، بما فيهم أولئك الذين تضرروا من تجاربهم في الحرب العالمية الثانية. وعلى خلفية ذلك، لا يزال الأطباء والمحللون النفسيون يفتقرون إلى المعلومات حول الضرر الذي يلحق بالدماغ. * اكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد