يشدّد عالِم البيولوجيا التطوّرية الأميركي مارك شانغيزي تكراراً على دور «الثورة في الإبصار» The Revolution of the Vision، إذ تساعد عينا الإنسان المثبتتان في أعلى السطح الأمامي للوجه، على مزيد من الدقة في تمييز الأشكال حتى لو تشابكت، وهو أمر حيوي لمن يعيش في غابة يتوجّب فيها تمييز وحش أثناء سيره عبر دغل كثيف. وفي المقابل، لم يعد هذا الأمر حاسماً بالنسبة الى الإنسان حاضراً، لكنّ عينيه بقيتا على حالهما، وهما سند أساسي للقدرة على القراءة والكتابة. وتخالف هذه النظرة ما تذهب إليه الداروينية التقليدية كليّاً، كما تبيّن أهمية العامل الثقافي في تاريخ الإنسان وتطوّره. الإلكترونيّات المُبهمّة هناك سؤال يتصل بالعصر المعلوماتي، يتصدى له شانغيزي بشجاعة، إذ يعيش الإنسان في عصر تتزايد فيه السرعة في شكل هائل، وتتهاطل المعلومات على الكائن الإنساني بكثافة وعلى مدار الساعة. هل يترك هذا العنصر الفائق القوة، آثاراً على الدماغ وتركيبته؟ يرى شانغيزي أن أثراً على الدماغ لن يظهر ربما إلا بعد مئات آلاف السنين، وهو مقياس واقعي للتطوّر، مع الاحتفاظ بهامش واسع من الشكوك بشأن التغيير في طريقة تعامل الدماغ مع المعلومات! ما سبب هذا التحفّظ؟ هناك حقيقة قويّة: التطوّر الثقافي يسير دوماً بسرعة أعلى كثيراً، بل بما لا يقاس، بالمقارنة مع التطوّر في التركيب العضوي للكائن. أكثر من ذلك، يستفيد التطوّر الثقافي من القدرات «القديمة» المنزرعة في الدماغ البشري، فيدجّنها ويعيد توظيفها في أشكال جديدة، كحال العلاقة بين البصر والقراءة والكتابة. وما يرجح حدوثه هو أن يستحثّ التطوّر الثقافي والمعرفي قدرات الكائن الإنساني، في سياق تدجينها وإدخالها ضمن سياقات معرفيّة أكثر تطوّراً، ما يؤدي ربما في آماد بعيدة إلى تطوّر نحو دماغٍ أكثر ذكاء. كذلك يطرح شانغيزي سياقاً مماثلاً لمسألة التعامل مع الشاشات الذكيّة أيضاً، فلا يعتقد أن الأثر يكون بدنيّاً وعضوياً، وليس بمعنى حدوث توصيلات جديدة في الدماغ، بل أن يكون تدجيناً وتطويراً للوظائف الموجودة فعليّاً. بقول آخر، يرجح أن يحتفظ الدماغ بتركيبته حاضراً بمجملها، لكن مع تدجين قدراته وتطويرها باتجاه التعقيد الذي تكون عليه الأمور مستقبلاً، في الثقافة والحضارة. وباستعارة من لغة الشبكات الرقميّة، ولو على نحو ساخر، يجري شانغيزي مقارنة تاريخية، ثم يسير ليمد نظرتها إلى المستقبل. ووفق كلماته، «يمكن القول إن «الإنسان 1.0» الذي «كان» قبل القراءة والكتابة، لا يختلف كثيراً في تركيبة دماغه عن «الإنسان 2.0» الذي وصل الى القرن 21، ما يسمح باستنتاج أن «الإنسان 3.0» للقادم من الزمن، لن يختلف في دماغه عن حالنا حاضراً. مجدداً، الفارق يكمن فعلياً في الثقافة والحضارة، وطُرُق تدجينهما لوظائف الذكاء الإنساني، وتطويره صوب آفاق أعلى وأكثر تقدّماً».