كان المفترض أن تكون المواجهة في أفغانستان «الحرب الصحيحة» بين من هم بالفعل أعداء للولايات المتحدة في احتضانهم للمجموعة التي تسببت بفائق الأذى، وبين تحالف واسع من قوى محلية راغبة في التحرر من التسلط والظلم وأخرى عالمية صادقة في نواياها انتشال البلاد من الإهمال والاستغلال. وإذا كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد اعتمد على المناهضين للحروب في مسعاه الانتخابي العام الماضي، فإنه جعل من أفغانستان الاستثناء في تأكيده على قراره انهاء التدخل العسكري الأميركي في الحروب الخارجية. فالمواجهة في العراق، وفق خطاب أوباما، كانت حرباً اختيارية تشوبها الشوائب، أما في أفغانستان فهي مصلحة وطنية أميركية تقتضيها المخاطر والالتزامات. إلا أن الأشهر القليلة الماضية أضرّت بهذه المقابلة، وهي اليوم تضع الرئيس أوباما أمام خيار صعب بين التصعيد والانسحاب. والتبدلات التي تفرض على أوباما مراجعة جدية لموقفه ثلاثة، أولها الواقع الميداني، وعجز القوة الأميركية في أفغانستان عن تحقيق المهمة من دون زيادة جدية في العدة والعتاد. وإذا كانت ثمة رغبة في تكرار ما تحقق في العراق العام الماضي، عبر ضخ المزيد من الجنود في خطة أمنية شاملة تمكنت بالفعل من سحب زمام المبادرة من المجموعات المعادية، فإن الأرقام المطلوبة في أفغانستان تفوق بأقدار تلك التي رصدت للزيادة في العراق، وذلك تبعاً للقلة العددية النسبية لحجم القوة الأميركية المتواجدة اليوم في أفغانستان، ولعدم إمكانية الاعتماد الفاعل على القوات الأفغانية الموالية والتي لا تزال تحتاج إلى أشواط من التنظيم والتدريب. بل إذا جرى اعتماد النقد الذي وجهته الأوساط المؤيدة للرئيس أوباما في واشنطن لما كانت قد اعتمدته ابتداء حكومة الرئيس السابق جورج دبليو بوش من أرقام في محاولتها ضبط الأوضاع في العراق، فإن حاجة حكومة أوباما اليوم هي إلى زيادة بضعف أو ضعفين على الأقل للقوات الأميركية العاملة في أفغانستان، وهي زيادة غير مقبولة لا من جانب الجمهور الأميركي ولا من جانب سلطته التشريعية. والتبدل الثاني هو في التراجع المستمر لصدقية نظام كابول المدعوم أميركياً. فهذا النظام لم يعجز وحسب عن تقديم الخدمات التي كان من شأنها استقطاب الجمهور الأفغاني، بل أمعن المسؤولون فيه بالفساد متسببين باستعداء قطاعات واسعة من مجتمعهم، ومفاقمين من حدة الريبة القائمة بين الفئات القومية التي يتشكل منها هذا المجتمع. وجاءت الانتخابات الرئاسية التي أجريت أخيراً، بما انطوت عليه من مشاركة محدودة ومن تشكيك بالنزاهة، لتكشف التباعد الحاصل بين النظام الجديد والجمهور، ولتزيد من هذا التباعد. والكلام في الأوساط المقربة من أوباما أن الرئيس الأفغاني حامد كارزاي يشكل بالفعل عبئاً خطيراً على مشروع إنهاض أفغانستان وضبط الأوضاع فيها، ولكن السبيل إلى التخلص منه غير متوافر. أما التبدل الثالث فهو في طبيعة العدو. فالإمارة الإسلامية التي يتزعمها الطالبان ليست دولة بالمعنى المتعارف عليه، وذلك لغياب قدرتها على إرساء حضورها في فرض النفوذ وتقديم الخدمات. ولكن هذا النقد ينطبق كذلك على نظام كابول، بل وفق بعض المقاييس تبدو هذه الإمارة أكثر واقعية، سواء في اتساع نطاق تحرك الطالبان ليشمل الجزء الأكبر من البلاد، أو في نجاحهم في استقطاب العشائر المتضررة من النشاط العسكري للولايات المتحدة وحلفائها، وفي ترهيب قطاعات واسعة من المجتمع الأفغاني للانصياع لأمرهم. لكن الوجه الأهم، أميركياً ودولياً، للتبدل الحاصل لدى الطالبان، هو في فك الارتباط بينهم وبين تنظيم القاعدة. فالوقائع الميدانية تكشف عن اقتصار شبه تام على تعبئة الأفغانيين أنفسهم في الحرب في مواجهة النظام والقوى الغربية، وذلك انطلاقاً من شعارات دينية ووطنية على حد سواء. بل إن خطاب الإمارة الإسلامية نفسه، وإن حافظ على اهتمام مبدئي بالقضايا الإسلامية العالمية، ينحصر عملياً وسياسياً بالموضوع الداخلي الأفغاني. وهذا التحول يستنزف التبرير الأولي للجهد العسكري الأميركي في أفغانستان. فهل إن الولاياتالمتحدة تواجه هناك الإرهاب الدولي الذي باشرها بالاعتداء، أم هل هي اليوم تقاتل حركة تحرير وطني وتحاول فرض نظام لا ينسجم مع رغبات أهل البلاد؟ يمكن بالطبع التشكيك بصدق الفصل الحاصل بين «طالبان» والقاعدة، واعتباره فصلاً مرحلياً يهدف تحديداً إلى إضعاف الحجة الأميركية، غير أنه يمكن في المقابل إعادة تقييم الاحتضان الذي سبق للطالبان أن قدموه لتنظيم القاعدة على أنه وليد أوضاع محددة لم تعد متوافرة اليوم. وثمة جوانب صادقة في كلا الطرحين، ذلك أن التوجه العقائدي للطالبان ما زال يستوفي الشروط التي رسمها منظرو تنظيم القاعدة، وكان توقع هؤلاء أن الإمارة الإسلامية ستعود حكماً إلى احتضان المجموعات الجهادية بعد تحقيقها لأهدافها داخل أفغانستان. لكن، من جانب آخر، فإن هذا التوقع لا يجد ما يدعمه في خطاب الطالبان، وإذا كان دفاع الطالبان عن قادة القاعدة في المرحلة الماضية، إلى حد التفريط بما كان قد تحقق لهم من سلطة، منطلقه الوفاء لدور المجاهدين غير الأفغان في تحرير البلاد من الاحتلال السوفياتي، فإن اقتصار إنهاء الوجود الأميركي على الأفغان أنفسهم، في حال تحقق، يعفي الإمارة الإسلامية العتيدة من الحاجة إلى تقديم الوفاء على استمرارية السلطة. ويقدم هذا البعد النظري مقومات جدلية داخل الولاياتالمتحدة للمناهضين للتدخل العسكري في أفغانستان. على أن العامل الأهم، أميركياً، هو نجاح الطالبان في رفع أعداد القتلى والمصابين من الجنود الأميركيين. فالرئيس أوباما اليوم يواجه واقع أن «الحرب الصحيحة» التي أعلن العزم على الانتصار فيها لا تبدو قابلة لأي انتصار، وفي الوقت نفسه فإن صحتها أمست موضع شك. بل إن استمراره فيها أصبح مقيداً بتأييد خصومه الجمهوريين له في موضوعها، في مقابل اتساع دائرة المعارضة له إزاءها في أوساط حزبه. والرئيس أوباما يحتاج حكماً إلى فضّ هذه المفارقة قبل الموسم الانتخابي العام المقبل.