مرة أخرى يعود الى الصورة وجه مصطفى أمين، أحد صانعي الصحافة الحديثة في مصر والعالم العربي، وعلى رغم أن اسم مصطفى أمين يقترن بعناصر كثيرة، إلا أن قضية تجسسه تظل القضية الأبرز والأخطر والأهم في ملفه الضخم، منذ أن بدأ عمله الصحافي في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، حتى آخر سنوات عمره، حيث رحل عام 1997، وأصبحت قضيته شاغلة للرأي العام المصري والعربي طوال ثلاثين عاماً، منذ القبض عليه في 21 تموز (يوليو) 1965، حتى خروجه والعفو عنه عام 1974 ثم السنوات التالية لهذا التاريخ والتي ملأها مصطفى أمين بكتاباته ورسائله التي نشرها في كتبه التي بدأها بكتاب «سنة أولى سجن» والذي صدر عام خروجه، أي عام 1974، وكانت هذه السنة بالتحديد، وما قبلها بقليل، سنوات تصفية حساب قاسية وضاربة في عهد جمال عبد الناصر، لذلك وجدت كتابات مصطفى أمين وآخرين رواجاً شديداً. كان الموسم نموذجياً لتصفية حسابات كثيرة وكبيرة، وجاء على غلاف الكتاب: «والآن... تكلم مصطفى أمين»، إنه يفتح ثقباً في جدار السجن لكي نطل منه على الدنيا الأخرى، التي شهدته سجيناً تسع سنوات. فخلف الأسوار رأى مصطفى أمين العالم الآخر وراء الشمس: حيث المتهم قاضياً والقاضي أصبح متهماً والحقيقة متنكرة والناس يدخلون الزنزانة بلا إيصال، ويعترفون بلا جريمة ويموتون بلا شهادة. وطبع الكتاب في أيلول (سبتمبر) 1974 طبعة أولى، ونفد، وفي كانون الأول (ديسمبر) 1974 طبعة ثانية ونفد، وفي عام 1975 طبع ثلاث مرات ونفد، وراحت طبعات الكتاب تتوالى، وألحقها مصطفى أمين بكتب أخرى تحتوي رسائله من السجن إلى شقيقه والى سعيد فريحة وآخرين. تمثل رسائل مصطفى أمين التي نشرتها جريدة «الحياة» أخيراً على مدى خمسة أيام أهمية بالغة لسبب أراه حيوياً، وهو إنها نشرت من دون أي تنقيح وإعادة صياغة من كاتبها، كما كان يفعل في رسائله التي نشرها عقب خروجه من السجن. هذه الرسائل أفلتت من إعادة الصياغة، وبالتالي أفلتت من أي تزوير أو تزييف، أو تشويه، لتدل بشكل واضح وصريح على شخصية مصطفى أمين في السجن، وتصبح وثائق تاريخية نادرة ونقية من أي تشويش. مع ذلك لاحظت بعض الملابسات التي تحتاج إلى تصحيح، منها أنه جاء في تقديم عزت صافي أن مصطفى أمين تم القبض عليه في 20 تموز (يوليو) 1965 والحقيقة أن توقيفه تم يوم 21 من الشهر نفسه. وهناك ملاحظة ثانية تتعلق بالرسالة الأولى التي جاء تاريخها 7 شباط (فبراير) 1970 ولابد أن يكون هذا التاريخ خطأ لأن مضمون الرسالة يتحدث عن رحيل عبد الناصر الذي وقع بعد ذلك بسبعة أشهر. أما الملاحظة الثالثة الشكلية فتتعلق بورود فقرة تقول: «في العدد الأخير من «المصري» الصادر في 16 تشرين الأول (أكتوبر) عام1970 وأظنه يقصد مجلة «المصور» حيث لم تكن هناك مجلة أو جريدة تحمل اسم «المصري»، في ذلك التاريخ. وعلى رغم أن هذه الملاحظات شكلية إلا أنها مربكة للقارئ لذلك لزم التنويه. وكان من الضروري أن يتضمن تقديم عزت صافي هذا الحديث المطول عن علاقة محمد حسنين هيكل بالأخوين مصطفى وعلي أمين، لأنها كانت عاملاً أساسياً في تشكيل صورة الصحافة المصرية على مدى يقرب من النصف قرن. وانطوت تلك العلاقة على صراع شبه مكتوم أحياناً، معلن بوضوح في أحيان أخرى. وبالطبع كانت بؤرة الصراع هي القرب أو البعد من السلطة. فمنذ قيام ثورة 1952 كان قائدها جمال عبد الناصر قريباً من محمد حسنين هيكل، الذي يكاد يكون أحد صناع القرارات والصيغة الإعلامية التي ظهرت بها الثورة حيث كان شاباً طموحاً ومثقفاً ومحيطاً بشكل كبير بما يحدث في العالم، عبر عمله كمراسل صحافي في عدد كبير من المناطق الساخنة، ما أعطاه خبرة واسعة وفاعلة بإدارة العمل الصحافي، بالإضافة إلى أنه لم يكن ضالعاً في لعبة الصراعات التي كانت تجرى قبل 23 تموز 1952 بين الوفد «الحزب الأكثر شعبية» والقصر، على رغم أن مالكي ومديري دار «أخبار اليوم» الأخوين أمين، كانا غارقين لأذنيهما في مهاجمة حزب «الوفد»، لحساب القصر الملكي، ويكفي الكتاب الذي أصدره علي أمين «هكذا تحكم مصر»، وفيه تشهير علني وواضح وقاس بحزب «الوفد»، وبزعيمه مصطفى النحاس. كان هيكل هو الأقرب من جمال عبد الناصر، واستطاع أن يكسب عطف الرئيس دائماً ومن دون أي تحفظات، وكان الحوار بينهما صريحاً وواضحاً، وإن كان القرار – بالطبع – للرئيس جمال عبد الناصر في النهاية، أما الأخوان أمين فكانا دوماً محل شك وريبة، لذلك قبض عليهما فور قيام الثورة، ولولا تدخل البعض لما خرجا من السجن، ليهتفا بأعلى صوتيهما تأييداً لجمال عبد الناصر وثورته. ولم تكن هذه الهتافات تمنع الرئيس من الشك في الأخوين دوماً، خصوصاً مصطفى الذي اتضح ولعه بالأميركيين في كتابه الأول «أميركا الضاحكة» الذي صدر في آب (أغسطس) 1944. ويرى البعض أنه ثمرة علاقة مبكرة ربطت صاحبه بالاستخبارات الأميركية ووصلت إلى ذروتها عند القبض عليه في منزله في الإسكندرية، مع رجل الاستخبارات المركزية الأميركية بروس تايلور أدويل. مع ذلك نعتبر محمد حسنين هيكل ضالعاً في تثبيت تهمة «التجسس» على مصطفى أمين، لذلك تبدو الملاحظة التي وردت في المقدمة، والتي تقول إن هيكل: (نأى بنفسه عن أن يصادق على التهمة أو أن يصدقها، فقد ترك الوثائق تتكلم، أما هو فقد ابتعد عن دور «القاضي»، الذي يتهم ويدين ويحكم وينفذ الحكم) ملاحظة بعيدة عن الصحة، لأن العقل «عقل هيكل» والخطة التي اتبعها في سرد الوثائق «المالك الوحيد لها»، وتصنيفها، و التساؤلات والتأويلات والتحليلات كافة التي وضعها تدين مصطفى أمين بقوة، بل تمد التهمة إلى شقيقه علي أمين، على رغم كل ما أحاط بكتابه «بين الصحافة والسياسة» من عطف وتعاطف وعدم تصديق وذهول وأحياناً ذرف الدموع، والبكاء الحار، وإنفاق الأموال للدفاع عن السجين، والسماح لأسرتي الأخوين بالسفر إلى خارج البلاد، رغم أن ذلك – كما يشير هيكل – كان يضعه في موقف حرج تجاه السلطة، أو رجال السلطة، ماعدا عبد الناصر الذي كان يثق به ثقة مطلقة. وأظن أن الصراع مع هيكل كان أحد الأسباب التي أوصلت مصطفى أمين إلى السجن. وهذا الصراع لم يكن صراع أشخاص بمقدار ما كان صراع توجهات، هذه التوجهات التي كانت ترتب شكل الصحافة ومضمونها. لهيكل دور كبير في تأميم الصحافة، وكان هذا التأميم إحدى الضربات الكبرى للأخوين «أمين» واستفاد منه هيكل بشكل كبير، إذ أتاح له الهيمنة على مؤسستي «الأهرام» و«أخبار اليوم» معاً. وعلى رغم تعاقب رؤساء مجالس الإدارة على «أخبار اليوم»، من أمين شاكر وكمال رفعت وصولاً إلى خالد محيي الدين، وكلهم ضباط، أو كانوا ضباطاً، إلا أن هيكل كان يدير المؤسسة بشكل فعلي، على رغم نفيه ذلك في كتابه «بين الصحافة والسياسة». وأظن أن هذا الصراع الذي كان يدور بقوة، ويجد مجاله الحيوي في الصحف والجرائد الأخرى المصرية كافة، وربما غير المصرية، حيث كانت مصر في تلك الفترة مركزاً قيادياً في العالم العربي، حسم لمصلحة محمد حسنين هيكل وتوجهاته التي كانت بالتأكيد هي توجهات جمال عبد الناصر على الوجه الأرجح، وكان هيكل يدفع بشكل شديد الذكاء لإيصال الأمور إلى حافة الهاوية، بل إلى الهاوية التي سقط مصطفى أمين فيها، بكل الإرث المرفوض «سلطوياً» وبكل الوثائق التي أوردها هيكل في كتابه «بين الصحافة والسياسة». وعلى رغم الوثائق التي تضمنها الكتاب، والإشارات والتأويلات التي تنتهي إلى أن مصطفى أمين وعلي أمين كانا «يتجسسان» ضد مصر، إلا أن هيكل كان يشير في بعض المواضع، إلى أنه لا يريد أن يقول كل ما عنده الآن، ولكنه يورد هذه الوثائق، وتلك الوقائع التاريخية لإيضاح حقائق لا يملكها إلا هو، ولدرء تهمة وجهت إليه، وهي أنه أحد الدافعين الأساسيين للزج بمصطفى أمين في السجن لذلك استخدم أرشيفه القوي والفريد في إطلاق نيران جديدة على صدر مصطفى أمين، والذي كان بدوره يتهم هيكل بالضلوع في إزاحته من على المسرح، و لم يرتح لهذه الإزاحة فحسب، بل عمل على تشويه تاريخ الأخوين بشكل كامل، منذ بدء عملهما في الصحافة، على رغم أن الأخوين «أمين» تركا بصمات واضحة في اداء هيكل الصحافي في بداياته وكان أول كتاب صدر له وهو «إيران فوق البركان» من دار «أخبار اليوم»، وفيه ملامح قوية تشي بمدرسة «أخبار اليوم». مصطفى أمين الذي فقد أرشيفه، أو أنه لا يعتمد عليه، يقف بجمله وفقراته وشتائمه الاستثنائية، لكن هيكل الذي استفاد من الارشيف وذكائه القوي في الإطاحة بأمبراطورية الأخوين أمين الصحافية، وهيكل له يقين مخيف في إطلاق الحقائق مثلها يقرر بدقة شديدة في مقدمة كتابه «بين الصحافة والسياسة، أن أبطال مصر هم ستة لا غير: محمد علي وجمال عبد الناصر وأحمد عرابي ومصطفى كامل ورفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده. هذا اليقين الذي حذف ونفى أبطالاً كثيرين مثل سعد زغلول ومحمد فريد وأحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد، لم يمنع هيكل من أن يخطئ في عنوان كتاب مصطفى أمين الذي يورده «قصة فاروق الكاملة» وهو في الحقيقة عنوانه «ليالي فاروق» وصدر فور قيام ثورة تموز ليحكي «مهازل ومخازي» فاروق. لذلك يحتاج الأمر إلى تأمل وتحليل وتأويل ما كتبه هيكل وأمين بحذر، وربط كل هذا بفكرة الصراع بينهما والذي يعد من أخطر الصراعات الصحافية في القرن العشرين. * كاتب مصري