في مقال كتبه أخيراً في صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، وصف الروائي والكاتب المصري علاء الأسواني الإعلام الغربي بأنه «المنحاز غالباً ضد العرب والمسلمين». ويقول الأسواني ان الإعلام الغربي متحيز «غالباً»، وهو يلمّح أيضاً الى أن جزءاً منه غير متحيز أو أن تحيّزه متقلب. وسيركز المقال على هذا الجزء من الإعلام لما يتضمنه من نظرة عميقة مهمة عن وظائفه وحدوده، والتي قد تُفسِّر ما يُستشف على أنه عدوانية من جانب مؤسسات الأنباء الغربية كافة. انه لأمر ممتع (ومشجع) أن تقرأ على سبيل المثال صفحات السياحة والسفر في الصحف البريطانية بعد زيارة مراسليها منطقة الشرق الأوسط، فمن النادر أن تجد كلمة سيئة تصف رحلات هؤلاء الكتاب إلى الدول العربية التي تزداد شعبية لدى السياح، كمصر والمغرب وسورية. وفي واقع الأمر، يمكنني أن أذكر أسماء عدد من أهم الصحافيين البريطانيين الذين زاروا سورية بشكل منتظم على مدار سنوات ولم تسعفهم الكلمات لوصف روعة هذه الزيارات، لجهة جودة الأماكن السياحية ولطف الناس الذين قابلوهم والود والاستقبال الدافئ الذي قدموه لهم. ولكن، على النقيض من ذلك، عند الحديث عن سورية ضمن الإطار السياسي تختلف اللهجة السائدة تماماً، فهي تندرج ضمن الإطار الأوسع الذي ينظر بعين الشك إلى منطقة الشرق الأوسط وبصفة خاصة إلى ما وصفه البعض بمصطلح «الهلال الشيعي» (إيران والعراق وسورية و «حزب الله»). وفي شكل أكثر تحديداً، من الشائع لبعض المعلقين الإعلاميين طرح أسئلة حول سورية في خصوص إيران و «حزب الله» ورئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري على سبيل المثال. وقد يخف التعاطف المحتمل الذي قد يتولد حول مرتفعات الجولان لاصطدامه بالمماطلة حيال قضايا أخرى يريد الصحافيون الكتابة عنها. لذا، ومن ناحية عملية، فإن الصورتين غالباً ما تبقيان منفصلتين عن بعضهما بعضاً، فالتقدير الموجود لسورية على صفحات السياحة والسفر نادراً ما يتطابق والهوية السياسية للدولة على صفحات الاخبار الأجنبية، ما يشكل فشلاً ذريعاً للإعلام يستحيل تقريباً علاجه وهو: الخلط ما بين السياسة والناس العاديين. فالهوية السياسية لدولة ما، هي الأكثر ظهوراً في الإعلام، وعليه فإن صورة الأشخاص العاديين الذين يمارسون حياتهم اليومية ستصنف تلقائياً ضمن تلك الصورة الأكثر شمولاً والمثيرة للشك. ونظراً لما للمساحة من قيمة في الإعلام، فإن المدة المتاحة تستغل لأبرز أحداث اليوم مما يعني فقدان التغطيات والأخبار التي تعكس الحالات الشخصية. وقد يجادل البعض في أن هذا يعكس نوعاً ما التركيبة السياسية لعدد من دول الشرق الأوسط – حيث المشاركة الشعبية في السياسة محدودة – فما الذي يحمل التقارير السياسية على تسليط الضوء على المواطنين العاديين؟ ولكن بما أن على الصحافيين واجب نقل الحقيقة وكذلك الاطار العام للقصة التي يروونها، فلا بد أن تتأثر حياة الأشخاص العاديين بالسياسة بغض النظر عن مستوى المشاركة الشعبية في العملية السياسية. وتجدر الاشارة الى أن النيات الطيبة التي يحملها المراسلون الأجانب تُحبط أحياناً بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم، فالقراء يفضلون الاطلاع على الأخبار المحلية لبلادهم وبالتالي يكون اهتمامهم بأخبار العالم والدول الأخرى محدوداً. ونتيجة لذلك تكون المساحة المخصصة لهذه الأخبار محدودة أيضاً، بمعنى أن الأخبار والقصص المعقدة قد تختصر في كاريكاتير بسيط ليعكس جوهر القصة بأكثر قدر ممكن من الاختصار. ولطالما كانت قلة المساحة للنص في الاعلام مصدراً للتذمر والشكوى. فعلى سبيل المثال، جرى غالباً وصف الصراع في دارفور لفترة طويلة على أنه بين العرب والأفارقة السود، وهو تبسيط مبالغ فيه وأبعد ما يكون عن نقل واقع معقد. وقد أودى الصراع في جمهورية الكونغو الديموقراطية بحياة عدد أكبر، غير أنه لم يلق اهتماماً يذكر مقارنة بالتغطية التي حظيت بها دارفور. ويميل المرء إلى التخمين بأن السبب في ذلك قد يرجع إلى أن قضية جمهورية الكونغو الديموقراطية لا يمكن تفسيرها بالدقة التي اختصرت بها مشكلة دارفور على أنها «العرب مقابل الأفارقة». غير أن ما تقدم لا يعني أن الخطأ يقع على عاتق الإعلام وحده، بل يمكن القول إن المحررين والصحافيين قد يكونون غير راغبين بالكتابة عن جوانب أكثر صدقاً وواقعية عن تلك البلاد. هذا يعني ان وصول الصحافيين الأجانب إلى قلب الحدث مشكلة بحد ذاته، وبخاصة اولئك الذين سبق أن كتبوا عن قضايا حساسة بالنسبة للسلطات. ومن أشكال الرقابة على هؤلاء الصحافيين عدم منحهم تأشيرات أو عدم الموافقة على دخولهم البلاد، وهو ما يُفسَّر غالباً على انه وسيلة لإخفاء شيء ما – وما يعني غالباً في لغة الإعلام أنه قد يمثل سبقاً صحافياً أو نواة لقصة جيدة. وفي التحليل النهائي، لا بد من طرح السؤال: ما هو المطلوب من الإعلام؟ ما المقصود بالإعلام «غير المتحيز»؟ هل هو الإعلام الذي يقدم الخبر لمصلحة جماعة ما أو فكرة ما؟ أم هو المحايد/الموضوعي الذي يسمي الأمور كما يراها؟ إن الإعلام غير القادر على رؤية الخلل والخطأ في خبر ما. والذي يتجنب طرح الأسئلة الصعبة هو إعلام لا جدوى منه، ويجب ألّا نعتبر أي موضوع مهما كان فوق النقد. على رغم أن الاتهام بالتحيز (سواء كان ذلك الاتهام في محله أم لا) سيبقى دائماً صفة ملازمة لصناعة الإعلام، فما زالت هنالك أمثلة لا حصر لها عن الصحافة الجيدة والنزيهة قبل كل شيء، والتي تنقل الخبر بدقة بشكل يحظى بقبول عديدين على اختلاف أصولهم، وكذلك الصحافة الجريئة التي تطرح الأسئلة الصعبة والمشروعة على السلطات. أما الصعوبات والضغوط التي تمارسها السلطات في تعاملها مع وسائل الاعلام، فهو أمر لا بد من تقديره، إذ يجب أن لا تكون الأمور سهلة لتلك السلطات، بل لا بد من التقويم العادل لأدائها. ومع ما قد يواجهونه من صعوبات، كمحدودية الوقت والمصادر وإمكانية الوصول إلى قلب الحدث، إلا أن هناك صحافيين غربيين يتمتعون بالخبرة الواسعة وبالنزاهة وبالتعاطف الصادق مع الشرق الأوسط يكرهون أن يشار إليهم ظلماً بأنهم «منحازون» في تقاريرهم. فالموضوعية هي غاية العديد منهم وهذا واضح في بعض مجالات الإعلام (في الحقيقة، قليلون هم الصحافيون الذين يرغبون في أن يوصفوا بأي شيء خلاف «الحياد»). وان تُواجه هذه الحقيقة بأفكار مسبقة «متحيزة» و«عدوانية» – وهما بحد ذاتهما صفتان عامتان – فإن ذلك مضيعة لفرص حقيقية للحوار. فمما لا شك فيه أن هناك صحافة منحازة وعدوانية، وأن بعض القراء والصحافيين الغربيين غالباً ما يقعون فريسة للأحكام المسبقة والفوقية الأخلاقية، إلا أن هذا ليس هو الوضع دائماً كما أشار اليه الأسواني ربما عن غير قصد. * مستشار في «الراصد الاعلامي العربي»