كان سيد قطب في شبابه أديباً موهوباً، دفعه إحباطه الذاتي إلى أن يكون يسارياً أقترب من أن يكون اشتراكياً أملاً بأن يخرجه الفكر الاشتراكي من تعاسته الذاتية، التي بدت أسبابها له، اجتماعية مادية وكل ما يمثله له المجتمع ورموزه وقادته. غير أن «الاشتراكية»، بمعناها الفكري لم تُخرِجُه من كرهه لنفسه ولم تعتقه من ذاته المعذبة. وربما أن فوزه بمنحه دراسية في أميركا لم يغير شيئاً من حالته النفسية، إن لم يزد تعاسته فوق المستوى الذي كانت عليه. ثم عاد الشاب الأديب المثقف إلى مصر، بعد تجربته غير السعيدة كما بدت في أميركا، وهو ما زال، كما كان قبل سفره إلى الخارج، محبطاً متيقناً بأن لا مصر ولا أميركا قدرتاه القدر الذي كان يستحقه. والأرجح انه لو كان في مصر حزب اشتراكي مؤثر، له احتمال كبير في الوصول إلى تولي السلطة، لكان سيد قطب من أهم قادة كوادره. غير أن بقاء سيد قطب يسارياً، في بلد كان أكبر أحزابه السياسية «الإخوان المسلمين»، لم يطل كثيراً. وربما بدا مفاجئاً لشباب «الإخوان» رغبة ذلك الأديب، الذي حسبوه ماركسياً بسبب أفكاره اليسارية، بالانضمام إلى حزبهم الذي وضع «الإسلام» جزءاً من أسمه، بل بدا ذلك أمراً في غاية الغرابة. وبقية القصة معروفة. لم ينضم سيد قطب إلى «الإخوان» فحسب، بل صار أهم قادة فكرهم الذي وظف مواهبه الأدبية بتميز لاستغلال شعار الإسلام في بلد غالبيته مسلمة قوية الإيمان للوصول إلى السلطة. ويتفق ذوو العلم من المتابعين بأن «القاعدة» وبقية التكفيريين خرجوا من عباءة سيد قطب ومريديه وتلاميذه وتلاميذ مريديه. ويروي اريك هوفر عما ذكره أهم مؤسسي الفكر الصهيوني حاييم وايزمان في مذكراته، انه من الأقوال التي كانت والدته لا تفتأ في ترديدها، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، في روسيا القيصرية: «مهما حدث سنكون في حال أفضل بكثير مما نحن عليه. فإن كان ابني شيمول - الثائر الشيوعي- مصيباً، سنكون سعداء في روسيا الشيوعية. (لأن الشيوعية تزعم أنها أممية لا تمارس التفرقة العنصرية ضد اليهود أو غيرهم). وإن كان حاييم - الصهيوني المتشدد - مصيباً فسنكون سعداء في فلسطين». والمشترك بين سيد قطب إمام التكفيريين من جهة، وبين شيمول وشقيقه حاييم ابني وايزمان من جهة أخرى، أن التطرف ملة واحدة. الثلاثة مثقفون محبطون لأسباب مختلفة. فذاك متطرف محبط وجد في تنظيم «الإخوان المسلمين» مخرجاً من عذابه الذاتي وكراهيته لنفسه، إذا صار فرداً قيادياً في كيان أكبر واعد بحياة أفضل، إذا وصل «الإخوان» إلى سدة الحكم في مصر أولاً ثم في بقية الدول الإسلامية. أما بالنسبة إلى المثقفين اليهود، الصهيوني حاييم وايزمان وشقيقه الشيوعي شيمول وايزمان فدوافع التطرف عندهما تختلف قليلاً حتى وإن كان كل يهودي في روسيا القيصرية يتعرض للإهانة والتحقير لمجرد يهوديته المورثة سواء أكان مؤمناً أو ملحداً، فإن تلك المعاداة ل «السامية» كما يقول الأوروبيون، أدت بالطبع إلى سعي كل منهما إلى البحث عن كيان «أكبر» يعتقه من نفسه المعذبة، إما كيان يهودي يجمع عشرات ملايين اليهود من دول العالم كافة في وطن واحد، أو كيان شيوعي أممي لا تفرقة فيه بين الناس وفقاً لتراثهم الديني أو الأثني كما توهم كل ماركسي يهودي أو غير يهودي. وكما سبق ذكره في مناسبات سابقة، بأن مجرد «كره النفس» بحد ذاته ليس كافياً ليتعمد الكثيرون قتل أنفسهم، فإن إحباط المثقف أو الفنان وتعاسته الفردية، ليسا عاملين يكفي تاوفرهما لدفع كل المثقفين المحبطين إلى قتل أنفسهم. إن ما يجعل أغلب المحبطين الكارهين لذاتهم، على أهبة الاستعداد، بل والحماس إلى قتل أنفسهم إذا قضت ضرورة الوضع إلى قتلها، هو «الأمل» بتحقيق نصر جماعي، ولو في معركة واحدة، لكيان أكبر أدى انضمامهم إليه إلى إخراجهم من تعاسة كل منهم الفردية، أياً كانت أسبابها، ضد العدو الذي اقتنعوا بأنه كان سبب عذابهم لا ظروفهم الفردية. والمحبط قد يكون ثرياً وقد يكون فقيراً وقد يكون متعلماً وقد يكون جاهلاً. فالمشترك هو «الإحباط» والبحث عن مخرج فردي إلى مجموع أو كيان أكبر. وهذا ما قد يفسر وجود مثقفين بعضهم مؤهلون تأهيلاً أكاديمياً جيداً بما في ذلك في الهندسة والعلوم الطبيعية بين مجموعة ال 85 التي أعلنت عنها الداخلية السعودية. فغالباً ما يقود الفئات التي توظف العنف لتحقيق هدف سياسي أياً كان كساؤه، المثقفون والفنانون المحبطون الذين، لسبب من الأسباب، اقتنعوا بأن مجتمعهم لم يمنحهم المكانة التي يستحقونها. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.