وصف العلامة الدمشقي محمد أمين شيخو الفرق بين معنى العقل والفكر، فقال: العقل هو صفة نفسية تسمى به النفس حينما تحوز حقيقة ما وتتمثلها وتتشربها، فتكون لباساً لها، تتصف بها، فتكون عقلاً لها، فالمدركات النفسية هي ما عقلته هذه النفس وتخللت به واتَصفت به، فالنفس كالمرآة حينما تتجه إلى أمر، فحينما ينطبع فيها أمر ويستحوذ عليها يسمى بتلك الحال عقلاً، فالعقل نفسي، والفكر دماغي، والروح حركي، والجسد مطية ومركب لهم جميعاً. للنفس شعاع حينما يسري لشيء، فإنما يسري سريان نور الشمس بل أسرع بكثير، العقل هو ما تعيه النفس وتحويه، وحتى تعيه لا بد للإنسان من أن يتوجه إلى ذلك الشيء الذي ستعيه نفسه، وعلى قدر اهتمامه وتوجهه الكلي يكون عقله، ولا يتم العقل إلا بعد التفكير التأملي العميق، وهذا ما نلاحظه في آيات كثيرة من القرآن الكريم، إذ ترد كلمة «يتفكرون»، وتليها مباشرة «لقوم يعقلون». أما الفكر في رأي محمد أمين شيخو فهي كلمة مأخوذة من «فك» و«رأي»، أي: أن آلية الدماغ حينما تتوارد إليها المشهودات بالعين أو المسموعات بالأذن أو المحسوسات بالحواس تبدأ بعملية التفكيك والتركيب أي التحليل والاستدلال، وذلك حينما يكون المرء صادقاً في طلب الوصول إلى أمر ما، فإن شعاع النفس يسري للدماغ، فترى النفس مطلوبها، ومَيز الله تعالى الإنسان بهذا الفكر عن سائر مخلوقاته. الفكر مركزه الدماغ، فبواسطة هذا الفكر يستطيع الإنسان التفكيك والتحليل والإدراك، وهو القارب الوحيد لنجاة الإنسان، وخلاصه من مخالب وبراثن محبة الدنيا الدنيئة ومهلكاتها. بواسطة الفكر يستيطع الإنسان أن يسمو ويتسامى ويرقى إلى أعلى المراتب، وإذا أهمل المرء تفكيره ظل أعمى ومقعداً، لا يشاهد ولا يرى إلا صور الأشياء، وهو دون الحيوان في المرتبة، وبواسطة هذا الفكر يستطيع الإنسان أن يدل نفسه ويبعدها عن شهواتها المحرمة، ويرقى ويسمو إلى ربه بالأنس ويتسامى، والعقل يتم بالصدق، فإذا صدق المرء بأمر من الأمور فسرعان ما يسري شعاع النفس إلى الفكر، فتعمل دواليب الفكر وينتج. بعد هذا الوصف الدقيق للفرق بين معنى العقل والفكر للعلامة محمد أمين شيخو، أقول: إن الفكر يتعرض إلى الوهن والتخلخل، وهذا ناتج من انخفاض كثافة المعرفة والمناعة الثقافية والسلوكية، ما يجعل من تعرض لوهن الفكر ونتاج السلوك في المجتمع عرضة للسخرية والتهكم، وربما يصل إلى حال الانكسار وفقدان الثقة بالنفس. ما دام أن الفكر مركزه الدماغ الذي بواسطته يستيطع المرء إدراك ما يحيط، ليحلل ويستنتج الإيجابيات والسلبيات، فلابد في مرحلة تربية النشء تعليمهم على تهذيب النفس وصقل المهارات والتدريب على كيفية تدفق المعلومات إلى الدماغ من دون مشوشات ومتناقضات تلقينية جبرية، يصبح معها نسيج الفكر رقراق، قابل للتهشم، يدخله في مرحلة انعدام الوزن، ويفقد في أزهى مراحله العمرية التألق والإبداع، ويبدو أنه بلا حياة! ما يحدث في مجتمعنا وعلى نطاق المجتمعات العربية عامة أن تربية النشء وتعليمهم تتم بأساليب ثقافة تجارة العطارة، خلط هذا بذاك من دون مسوغات علمية في التربية والتعليم، ومن الطبيعي أن يكون المنتوج نمو كذوب وليس تنمية مستدامة، من هنا تتدخل جحافل الفساد والفوضى والإحباط! في يوم واحد من أيام مجتمعنا يدور الإنسان في دائرة شك وانقسام الفكر بين مصدق ومكذب، ينتقل من هشاشة أولية إلى ثانوية، ثم ينفتح على خريطة الهشاشة بفضائها الواسع عبر وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي التي أضحت تحاكيه وتحاوره حتى يغلبه سلطان النوم. يصحو الإنسان في مجتمعنا غالباً وفكره يحمل أسئلة بلا إجابات، وتهماً من دون قرائن وشتائم لا يسمعها في حظيرة بهائم، وأخباراً تعيده إلى قرون وسطى، وخيبات تنموية فرضت صورتها مع صباح التمر والقهوة! وبعد معركة مع فكر منفجر في فضاء واسع وأطروحات تجاوزت قدرات الرقيب القابع في غرف الختوم والملف الأخضر، يمترس العقال على رأسه، وبعد ربط حزام الأمان يحرك مقود المركبة، وفي طريق حددت فيه سرعة السيارة ب90 كيلو متراً في الساعة ينظر في المرآة، ليستشعر الطريق خلفه، وفي المسار الأيمن إنه الفزع، سيارتان أضيئت أنوارهما في الصباح، انطلقتا بالسرعة القصوى خلف سيارته، وعن اليمين أين يذهب؟ تجمدت القدمان، وتنافضت اليدان، وأَغْمضَ العينين، لم يكن هناك بحر بل جدار من الأسمنت والحديد، اهتز الدماغ، وطار الفكر، أين «ساهر»؟ أين «المرور»؟ صيحة مدوية لم يعرف بعدها إلا وهو يلهج بالتهليل والتكبير والحمد لله جل في علاه أن نجاه من كَرْب كاد يودي بحياته! وصل إلى مكتبه، التهم قطعاً من السكر، هو على موعد لتقديم عرض يحمل أفكاراً ورؤى للتغيير والتطوير، وأنا أوجه سؤالاً إلى العلماء والأطباء الأصحاء عن حال الدماغ في تلك اللحظة، وكيف سيكون منتوج الفكر؟ يا من بيدهم الأمر والنهي: ارحموا قوماً ذَلهم جَهلٌ يسيطر على الطريق، وأعطفوا على قوم أرعبهم الطريق، امسحوا دموع أيتام ذهب بآبائهم الطريق، وشباب جاؤوا من الغربة ليقبّلوا جبين الوالدين، ودفِنَتْ أحلامهم في فوضى الطريق، ومن صالة أفراح خرج عروسان يحلمان بالنسيم والندى، فصاح المنادي قبل مغادرة عتمة الليل: يا من أحضرتم ورود التهاني، ألقوا بعد صلاة الغد نظرة الوداع على عروسين اختلطت دماؤهما على قارعة طريق! [email protected] alyemnia@