بعثت الرياض رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي بلغة لم تعتد التعبير بها عن مواقفها في السياسة الخارجية، ولقي الاعتذار السعودي عن مقعدٍ غير دائم في مجلس الأمن ترحيباً عربياً وجدلاً دولياً واسعاً، نظراً لأنها المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الاعتذار، حتى إن أنظمة مجلس الأمن لا تتضمن أية قواعد تنظيمية تعالج مثل حالات الاعتذار هذه، وهو ما زاد من حدة التكهنات والقراءات لخفايا هذا الموقف أو رسائله التي تسعى الرياض إلى إيصالها بصوت مسموع وجريء. لن تحاول هذه المقالة تقويم الموقف السعودي، لأننا يجب أن نتجاوز هذه المساحة لأنها أصبحت جزءاً من الواقع، ولنبحث في مستقبل هذه الخطوة ومكتسباتها أو تحدياتها في المستقبل القريب والبعيد، لا سيما أن الرياض تشعر بأن المزاج السياسي الأميركي في ظل ظروف المنطقة الحالية بدأ بالترنح بموقفها من أحداث البحرين، ومروراً بالصفقة الأميركية الروسية في ما يتعلق بالأزمة السورية، وانتهاءً بالغزل السياسي بينها وبين طهران، وهو مدار المقالة اليوم. يجب أولاً أن أقول أن السيناريوهات والاحتمالات تظل مفتوحة، فالمشهد السياسي في المنطقة يعاد تشكيله من جديد، وفق معطيات الواقع وموازين القوى الجديدة! ولذا، فإن هذه المقالة تثير تساؤلات أكثر من تقديمها لإجابات قطعية وجازمة، وتحاول تحليل التحالفات الإقليمية ودوافعها، سعياً إلى استشراف مستقبل المنطقة في شكل متكامل وواعي. أولاً: كانت واشنطن تضع منذ عقود من أهم مصالحها الحفاظ على هدوء وأمن منطقة الشرق الأوسط لسببين: الأول، كونها تستهلك نصف الإنتاج العالمي من النفط، وأن أية مخاطر تحدق بالمنطقة قد تزيد من ارتفاع أسعار النفط أو تعيد مشهد اللعب بورقته كما حدث في عهد الملك فيصل رحمه الله! والسبب الثاني المحافظة على أمن إسرائيل لا سيما وهي في مرحلة بناء متسارع لقوتها وقدراتها النووية والاقتصادية! فهل هذه المصالح الأميركية ما زالت قائمة حتى اليوم؟ بناء على البيانات الأسبوعية لإدارة معلومات الطاقة الأميركية فإن الإنتاج المحلي الأميركي في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر الماضي من النفط الخام وصل إلى مستوى 7.57 مليون برميل يومياً، مسجلاً أعلى مستوى له منذ عام 1989، وهناك حديث متضارب عن اقتراب واشنطن من الاكتفاء الذاتي عن منظمة أوبك، والذي يبدو أنه سيكون خلال العقد المقبل، ومن هنا نعي أن أهم العوامل في تغير الموقف الأميركي من مصالح المنطقة قلة اعتمادها على منتجات النفط من الشرق الأوسط. وفي الجهة الأخرى، فإن إسرائيل زادت من ترسانتها النووية وبنيتها التحتية في مجالات عدة، كصناعة السلاح لتكون أحد أكبر القوى في المنطقة، ملتزمة بنظرية «بيغن» التي تقول: «إنه يجب على إسرائيل السعي بصورة فعلية إلى منع إنتاج أي سلاح نووي عربي»، مما سبق يمكن لنا أن نعي أن الدوافع الأميركية لحماية المنطقة وهدوئها بدأت في التلاشي أو قاربت، وهذا ما يفسر تقاربها مع طهران! ثانياً: في الجهة المقابلة، إن طهران منذ عقود احترفت ممارسة التضليل السياسي كنوع من مهارات الأداء السياسي في تعاملها مع أميركا التي تسميها ب«الشيطان الأكبر» ومع إسرائيل، فهي تحترف التعارك الإعلامي مع واشنطن في ذات الوقت الذي تتحالف معها عملياً في تحقيق أهدافهما ومصالحهما المشتركة، فطهران كانت من أحد أهم عوامل نجاح الإطاحة الأميركية بنظام طالبان ثم صدام حسين، وكافأتها أميركا بتعيين حكومة أفغانية موالية لإيران، كما سلمت لها العراق سياسياً وفكرياً، إن طهران ظلت تستخدم لغة العداء مع واشنطن وإسرائيل من باب الاستهلاك الدعائي لا أكثر، لا سيما والثورة الخمينية استمدت شعبيتها من شعارات الممانعة، فطهران تحاول التأثير في الداخل الإيراني والشعوب المسلمة تحت شعارات ثورية، تظهرها في صورة المعادي للإمبريالية في الوقت الذي تعلم أميركا وإسرائيل أن إيران لا تمثل لها أي خطر، وأن تهديدها لن يتجاوز المحور السني في المنطقة! ومن دلائل ذلك أن أميركا فشلت في إيقاف تخصيب اليورانيوم الإيراني، على رغم أنها تقوم بذلك على مرأى العالم ومسمعه، في الوقت الذي ضربت فيه إسرائيل مفاعل العراق النووي 1981 ثم الاحتلال الأميركي للعراق 2003 لمجرد الاشتباه بامتلاك بغداد للسلاح الكيماوي! فلماذا تتغاضى أميركا عن سعى إيران العلني لتطوير قدراتها النووية؟ ذلك لأنها تعي أن هذا السلاح لا يمثل لها أو لإسرائيل أي مخاطر. وأخيراً: لماذا تخلت طهران عن لغتها العدائية تجاه واشنطن؟ لقد اضطرت للتخلي عن ذلك، في ظل تطور أحداث سورية، وكأنها الورقة الأخيرة التي تلعب بها! فسقوط نظام الأسد سيعني انحسار المشروع الصفوي وانهيار الحديقة الإمامية لها، وربما انتهاء أحلام الثورة الخمينية بمشروعها التوسعي. من هذا، فإن أحد أكثر السيناريوهات المقلقة والمحتملة في المنطقة، حماية لأمن إسرائيل من جانب واشنطن وحماية لحليف طهران ومشروعها الصفوي من جانب، يتمثل في المضي في حل الأزمة السورية سياسياً وربما عسكرياً لمصلحة الأسد، لا سيما والقاعدة بدأت تؤثر في المشهد السوري، وهي تمثل تهديداً لإسرائيل في مرحلة ما بعد بشار الأسد. وفي المقالة المقبلة، سنحاول قراءة هذا السيناريو في شكل مفصل وموقف الرياض من الحلف الأميركي – الإيراني الجديد. * محام وكاتب سعودي. [email protected] @magedAlgoaid