في أعقاب الحرب الكبرى (العالمية الأولى)، كشفت الدولة السوفياتية الناشئة عن اتفاقية كانت نسخة منها في عهدتها، بين فرنسا وبريطانيا، حول خطة لتقاسم النفوذ في الشق الآسيوي من السلطنة العثمانية، رجل أوروبا المريض حينذاك والذي كان قد وصل إلى شفير الاحتضار. وتنص الخطة التي باتت معروفة باسمي موقعيها، على إقامة مناطق لسيطرة مباشرة وأخرى لنفوذ غير مباشر لكل من القوتين الأوروبيتين، إضافة إلى منطقة دولية في جوار القدس. ولا تأخذ الخطة في الاعتبار صيغة الانتداب التي أقرتها عصبة الإمم في ما بعد، إذ لم تكن هذه الصيغة تشكلت، وهي تفترض سقوطاً نهائياً للقوات العثمانية، فتشمل ضمن مناطق النفوذ المباشر مساحات واسعة من الأراضي التي أصبحت مع نهاية الحرب جزءاً من الجمهورية التركية، بفعل نجاح قوات هذه الجمهورية باعتراض تقدم التحالف المعادي لها نحو الاستيلاء على كامل التراب العثماني. وقراءة التطورات التي تلت الحرب العالمية الأولى تبين أن الواقع جاء مخالفاً في تفاصيله لآمال بريطانيا وفرنسا، من حيث حدود النفوذ وطبيعته وديمومته، وإن كان توفر لكلا الدولتين موطئ قدم موقت ومأزوم في المنطقة التي أشارت إليها الاتفاقية. أما النتيجة الفعلية للأحداث المتتالية، من وحي الاتفاقية وفي ما يتعداها، فهي أن خريطة جديدة ترسخت للمنطقة المشرقية، انطلاقاً من اعتبارات متضاربة، منها ما يتجاوب مع مصالح قوتي الانتداب ورؤيتهما، ومنها ما هو ناتج من توجهات القوى المحلية وطموحاتها. فبريطانيا التي واجهت انتفاضة احتاج قمعها إلى بطش عسكري في العراق، عملت على تثبيت أسس حكم مركزي قوي يجمع الولايات العثمانية السابقة في بلاد الرافدين، وإن على حساب تجاهل مطالب في الوسط الكردي، في شمال المنطقة المنتدبة، لإقامة دولة قومية. إلا أن بريطانيا ذاتها والتي كانت أقحمت نفسها بوعود متضاربة لجهات محلية، في نجد والحجاز كما إزاء المجتمع اليهودي المتنامي في فلسطين، عمدت إلى الارتجال والاستدراك في أكثر من موقع، فجعلت الجزء الجنوبي من بادية الشام إمارة قائمة بذاتها، وبعرش في العراق عوّضت فيصل ابن الحسين، شريف مكة، عن طرده من الشام بعد مواجهات مع القوات الفرنسية، وهو الذي مكّن القوات البريطانية بتحركه المعادي للقوات العثمانية من الانتصار في المنطقة. وبقيت مسألة التوفيق بين الوعود المقطوعة للعرب واليهود في فلسطين أمراً مستعصياً، فعمدت السلطة المنتدبة إلى إدارة الأزمة فحسب، لا إلى السعي إلى حلّها. أما فرنسا التي جاءت حصتها أكثر تواضعاً، بالمقارنة مع ما أشار إليه تفاهم سايكس بيكو وما حصلت عليه بريطانيا، فسعت ابتداءً إلى تطبيق رؤية أوروبية لفرز قائم على أساس الهوية الثقافية، لا سيما بعد مطالبة ناجحة لوفود مسيحية من جبل لبنان بتوطيد استقلالية الجبل وتوسيع نطاقه. فتصور فرنسا لفضاء انتدابها في المشرق جاء من وحي تفاعلها مع المشروع اللبناني، من دون اعتبار بالمقدار المطلوب لطرح الاتحاد السوري الذي كان حقق رواجاً يتعدى النخب حيث نشأ. ومن السهل في هذا السياق اعتبار التوزيع الإداري الذي سعت السلطة الفرنسية المنتدبة إلى إرسائه ابتداءً من باب «فرّق تسد»، إلا أن التخلي السريع عنه يشير بالفعل إلى طبيعته الاختبارية والاستقرائية لواقع مرجوح من التمايز الثقافي مقابل التواصل الراجح. إذاً، خرجت كل من القوتين المنتدبتين من المنطقة مخلفة وراءها استمراراً لجدلية التواصل والتمايز، إنما في إطار جديد، هو إطار الدولة القُطرية أولاً، لا المنطقة بمجملها، رغم الطموحات العقائدية التي أصرّت على تأصيل التواصل في فضاءات تتعدى الدولة القُطرية. واليوم، بعد زهاء سبعة عقود على هذا الخروج، والتغليب التلقائي للدولة القُطرية، يبدو أن هذه الجدلية لم تحسم، بل إن المد والجزر في هذا الشأن يسير اليوم في اتجاه تداعي الدولة القُطرية في معظم المنظومة المشرقية، ليس بفعل خطة ترسمها قوى خارجية ما، بل نتيجة لفشل الدولة القُطرية التي ولّدت في كل من القطرين الأبرزين، أي العراق وسورية، نظاماً استبدادياً (تحت مسمىً مشترك) فشل فشلاً ذريعاً في المحافظة على التوجه التواصلي وفي إحياء هوية وطنية، وسمح طوعاً وكرهاً ببروز أعتى الطروحات التمايزية. بل، بعد بضعة عقود من الزعم التواصلي القائم على الرابط القومي ثم الديني ثم الملتبس (كما في حال خطابيات «حزب الله» الضائعة في تعريفها للأمة)، تغرق المنطقة في منحى فئويات تزعم السعي إلى الوحدة والتماثل. ف «الجمهورية العربية السورية» أصبحت مشروع طغمة حاكمة لتجييش طائفي يحفظ لها بعض النفوذ، فيما التحدي المعلن لسايكس بيكو، هذا الشبح الذي لم يتحقق أصلاً، في سرديات من يسعى إلى تبرير التورط الاستنزافي ل «حزب الله» في المعركة السورية، أصبح مفخرة القضاء على ما تبقى من إنجاز على مستوى الدولة القُطرية. هنا تأتي قراءات بعض هواة التاريخ والسياسة في الولاياتالمتحدة وغيرها، والتي تتجاهل الطبيعة الجدلية للتمايز والتواصل في المنطقة، فترى في بروز الفئوية تحقيقاً لجوهر أصيل وتسقط على التواصل سمة الطارئ العرضي الزائل. فكما كان نائب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، من وحي التجربة البوسنية التي كان عايشها لتوّه، اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي وطائفي، متجاهلاً التداخل والتواصل وعمق الهوية المشتركة، يعمد بعض أصحاب الطروحات والحلول السريعة في واشنطن إلى الترويج لفكرة حتمية انقسام المنطقة المشرقية إلى دويلات (عددها في تعداد إحدى هذه القراءات 72) على أساس الانتماءات الفئوية. طروحاتهم هذه، رغم محدودية تأثيرها على قرار أميركي يبدو اليوم غائباً، هي مواكبة لتوجهات حالية، وليست رأياً مبنياً على متابعة متأنية لتطور المنطقة التاريخي، ولكن، من خلال إعادة استعمالها في أوساط الطعن بسايكس بيكو في المنطقة، من شأنها المساهمة في الانحلال، وليس التقسيم المستحيل الذي تتهاوى باتجاهه المنطقة مع غياب رؤى التواصل الموضوعي البعيد من التسطيحيات التأحيدية وعن الاختزاليات الفئوية.