هل وجود حي بائس في نيويورك أو لندن أو باريس أو موسكو يعني أنها دول متخلفة فيها وجه آخر يعكس هزالة نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ وهل وجود ملايين العاطلين من العمل في دولة مثل الولاياتالمتحدة يعني أنها فاسدة؟ وهل كل ما تقوم به الحكومات في بلدانها لا يستحق الثناء أو الذكر لكونه من واجباتها؟ ألا يفتخر جميع الفرنسيين والبريطانيين والأميركيين بإنجازات حكوماتهم وشركاتهم وعلمائهم؟ الأسئلة كثيرة حول ما يريده بعض المحبطين الذين لا يرون أكثر من أرنبة أنوفهم المتعودة على روائح الحقد الشخصي أو السلبية المفرطة التي تمنع رؤية أية إشراقة للضوء في الزوايا المظلمة التي كانت تعم معظم كردستاننا الخارجة عن الزمن تماماً، بل ربما كانت غارقة في بحر من الآلام والفقر والانكسار والحصار القاتل لعقود مريرة دفع فيها المناضلون من أجل الحرية قوافل من الشهداء، والأهالي عقوداً من الذل والعوز والمرض، حتى انتصار الشعب وفعالياته السياسية في آذار (مارس) 1991 إثر انتفاضة عارمة أسقطت إلى الأبد ذلك الاحتلال الفاشي البغيض ودفعت الأهالي إلى حقبة جديدة من التحرر والانعتاق. خلال العقد الأول من انعتاقها عاشت كردستان وأهلوها أياماً مكتظة بالأحداث التاريخية والصراعات الحادة والحصار الخانق حتى تكلل صبر الشعب بانتصار السلام وسقوط الديكتاتورية وبداية عصر جديد انطلق فيه المخلصون والفاسدون، كل إلى مبتغاه، فبنى الأولون ما عجزت عن بنائه الدولة العراقية خلال 80 عاماً لكردستان، وفعل الفاسدون فيها ما يشبه فعل حكام عقود الهيمنة والاستبداد. وكي لا نغوص في تفصيلات أكثر سندع بعض الأرقام تعطينا صورة أكثر إيضاحاً وواقعية عما جرى خلال أقل من 20 عاماً مما لم يستطع هؤلاء المصابون بعمى البصيرة أن يروا هذا البلد كيف كان وكيف أصبح؟ كانت نسبة الفقر المدقع تتجاوز الأربعين في المئة في محافظات الإقليم عشية الانتفاضة وازدادت إلى أكثر من نصف السكان في سنوات الحصار المزدوج على الإقليم، فغدت اليوم أقل من 5 في المئة، وفق إحصاءات واستطلاعات وزارة التخطيط العراقية، وبينما كانت البطالة تعم الإقليم لغاية 2003 بنسب مخيفة أصبحت اليوم أقل نسبة على مستوى ليس العراق وإنما المنطقة برمتها. كان لدينا 700 مدرسة قبل عقدين وأصبحت كردستان اليوم تحتضن 12000 ألف مدرسة و11000 ألف مركز صحي ومستشفى بعد أن كانت 500 فقط مطلع تسعينات القرن الماضي. وبعدما كان عدد طلاب الجامعات والمعاهد لا يتجاوز آلافاً عدة أصبح اليوم في كردستان أكثر من 98 ألف طالب و7200 أستاذ جامعي، ونجح المواطنون والحكومة في فتح 20 جامعة حكومية وأهلية بعد أن كانت هناك جامعة واحدة حتى آذار (مارس) 1991، وبعدما كانت أعداد طلاب البعثات والزمالات في كردستان حتى عشية الانتفاضة لا تتجاوز العشرات، هناك اليوم أكثر من 2500 طالب دراسات عليا وألفا طالب من الإقليم يدرسون في أرقى جامعات العالم مختلف العلوم وبمستويات الدراسة الجامعية الأولية والمعمقة. وبفضل تطور الأداء السياسي والديموقراطي وتوافر مساحات كبيرة للتعبير عن الرأي يصدر اليوم في الإقليم 876 مطبوعة، من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والفصلية، إضافة إلى عشرات الفضائيات والإذاعات التي لا تمتلك في معظمها الحكومة أياً منها، بل تدعمها من دون تدخل في سياستها أو توجهها. لقد ارتفعت معظم مستويات الحياة الصحية حتى أصبحت نسبة وفيات الأطفال 1 في المئة بعد أن كانت 28 في المئة إلى ما قبل عشر سنوات تقريباً، يقابل ذلك ارتفاع واضح في مستويات المعيشة بسبب تقلص مساحات البطالة وازدياد فرص العمل والاستثمار في الإقليم الذي تجاوز العشرين بليون دولار لعام 2012 في مختلف مناحي الحياة وبالذات في خدمات السكن والكهرباء والصحة والزراعة والطرق والجسور، حيث انتهت تقريباً معضلة الكهرباء منذ سنوات في الإقليم. ربما ستطول القائمة وتزدحم الأرقام، لكنها تبقى نقاط ضوء تزيح الظلام من تلك الزوايا الداكنة التي يحاول البعض إبقاءها غارقة في سواد التخلف واليأس والإحباط. وعلى رغم كل شيء تبقى تلك الحقيقة المثلى والأكثر جمالاً حينما تزيح نقاط الضوء كتل الظلام المدلهم.