يعلو صوت أم كلثوم مؤدية رائعة محمد عبد الوهاب «أغداً ألقاك»، في القطار المتّجه من محطة ماريلبون في لندن الى ستراتفورد مسقط رأس وليم شكسبير. الطريق طويلة تستغرق أكثر من ساعتين ونصف الساعة، ومن يؤنسك وأنت تمرّ بين البيوت العتيقة وبساتين الخضرة، سوى صوت الستّ وأغانيها الطويلة التي تصبح قصيرة في بلاد المساحات الشاسعة المتباعدة مدنها وقراها. تقول: «يا خوف فؤادي من غدٍ... آه كم أخشى غدي»، فيُحوّر بالك المشغول على بلاد ملتهبة، الشوق الى الحبيب ولقائه، الى الشوق الى الأمان والخوف من مستقبل ملعون مجهول تخشى أن يحرقك وأهلك وجيرانك والبلاد برمّتها. تقرّر قلب الصفحة ونسيان ما يدور في بلاد الشام من موت رخيص، وتختار أغنية «أمل حياتي» في بلاد الضباب التي تعيدك طفلاً يبحث بين مسارحها وحديقة حيواناتها ومتاحفها ومتاجرها الملوّنة وسكاكرها الجذابة، عن طفولة ضائعة وعن رائحة حضن الجدّة الذي وحده كان يُشعرك بالأمان والاطمئنان حين تدوّي الصواريخ من فوق رأسك. تقول لنفسك «نحن محكومون بالأمل» كما قال سعدالله ونوس ذات يوم، وتركّب في خيالك صوراً زهرية على الدخان الأسود الذي احتلّ ذاكرة طفولتك. تتنهّد. تتحسّر على المتعة التي حُرمت منها وأنت في عمر هؤلاء الأطفال المتهافتين على زيارة كاتبهم المفضل شكسبير، ويتسابقون لشراء التذكارات الأجمل من بيته. تتحسر لأبسط الأشياء التي لم ترها من قبل، كالقرد والأسد والنمر، وإطعام الطيور والباندا والرقص مع الدلافين. لكنك، محكوم فعلاً بالأمل الذي يطلع من فم أم كلثوم كماسة تكتشفها للمرة الأولى. فتدندن وحدك باللهجة المصرية، لترى ذاك الصيني وأولاده يحاولون التدقيق باللغة التي تغنيها، فيما تبتسم لك أفريقية متفاعلة مع انسجامك بالموسيقى. تتنبّه فجأة الى أن شكسبير الذي دفعت للتوّ أكثر من 35 دولاراً في القطار لزيارة بيته، وأكثر من 15 دولاراً للدخول الى بيوت أفراد عائلته، ولد في العام 1564، فيما ولدت «ثوما» في العام 1898. بينهما 334 سنة! صحيح أن إبداعاتهما متباعدة، ولا يجوز المقارنة بينها أبداً، إنما تسأل نفسك، لماذا لهذا المبدع مهرجان سنوي ضخم ومتحف وبيت وقرية يزورها 760 ألف شخص سنوياً، وتلك المبدعة المصرية الشغوفة ورمز الرومانسية العربية لا بيت لها نزوره ولا مهرجان ولا زوار بالملايين يأتون الى قريتها «طماي الزهايرة» في محافظة الدقهلية المصرية؟ لماذا عندما أسافر الى مصر، لا أكلّف نفسي البحث عن بيت «كوكب الشرق» التي تطربني في غربتي وتكون صديقتي في أفراحي وأتراحي؟ الأرجح، أننا نحتاج الى سنين من الخبرة في التسويق الذكي لبلداننا ومبدعينا وثقافتنا. تتذكر أنك أقمت يوماً ما في فندق يحمل اسم «أم كلثوم»، يطلّ على النيل في منطقة الزمالك، حيث سرقت حاجياتك وأموالك وتحوّلت الإقامة يومها الى تحقيق فاشل مع الشرطة المصرية. فتلجأ الى الصديق «غوغل»، لتكتشف أن بيت «سيدة الغناء العربي» باعه الورثة لمستثمر قرّر هدمه وبناء فندق من فئة الأربع نجوم مكانه. فندق هشّ في هندسته المعمارية التجارية، وهشّ في هندسته الداخلية حيث تجد صوراً لأم كلثوم موزّعة بشكل عشوائي غير فني، وكنبة يقول عامل الاستقبال إنها من أغراض أم كلثوم الشخصية! فتعود الى الحسرة من جديد. لكنك تلوم نفسك لأنك لم تزر متحف «الست» في قصر المنسترلي في المنيل - جنوبالقاهرة. وعندما تتذكر أن مبدعين في مسقط رأسك وصلوا إلى العالمية وكرّموا في الخارج ومنحوا أوسمة وأقيمت لهم تماثيل تحمل وجوههم، لا أثر لأمكنتهم في لبنان، مثل أمين معلوف وميخائيل نعيمة ونصري شمس الدين وغيرهم كثر، تشكر الله أن الدولة المصرية بنت متحفاً لأم كلثوم. وإن تأخرت في ذلك. فكما هُدم منزل أم كلثوم في القاهرة، هدم قبل شهور، منزل أمين معلوف الذي بني في ثلاثينات القرن العشرين في بيروت، بإذن رسمي من وزارة الثقافة، وهدمت معالم أثرية كثيرة باسم «التجديد» المتخلّف. من يصون التراث ومن يدمّره ليست بيوت مبدعينا وحدها المفقودة في بلداننا المزنّرة بالقنابل والخراب والموت الرخيص، فتراثنا رمز حضارتنا وحقيقة وجودنا وتاريخنا، يهدم من دون أن يرفّ جفن أو تدمع عين ويحرَّك ساكن. الناظر الى بيت شكسبير الخشبي الهزيل في بلدة ستراتفورد التي يمرّ فيها نهر «آيفون» (Avon) الشهير، يتحسّر على الخراب العشوائي الذي يصيب آثارنا وقلاعنا وجوامعنا وكنائسنا التي تُدمّرها عقول الجهل والتكفير بالمدافع، باسم الحرية، باسم الفوضى، باسم التجديد والابتكار غير المبتكر، باسم الحضارة غير الحضارية، باسم الجشع المالي. في تلك البلدة الصغيرة الجميلة التي تعيش على أمجاد الكاتب المسرحي والشاعر وبيوت عائلته الخمسة، وزوارها الذين تخطوا ال 26 مليون شخص، هدم بيت صاحب «ماكبث» في العام 1758 كلياً. لكن البلد الحديدي الذي يُخطط لكل عمل ويستثمر أدق التفاصيل من أجل نموّ اقتصاده، والذي يبحث عن عوامل تغذي الشعور القومي لأبنائه، ويحرص على المحافظة على وجهه التاريخي المشرق وحضارته، أعاد إعمار البيت المبني على الطراز الجاكوبي وتحوّل في العام 2000 الى متحف رسمي بقرار من الحكومة البريطانية التي تدرك جيداً أن شكسبير لم يترك شعراً ومسرحيات وإرثاً أدبياً عالمياً بارزاً فحسب، بل ترك اسماً كبيراً ومواد يمكن استثمارها سياحياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً. هذه البلدة تعيش على ما تبقى من إرث شكسبيري أو ما يعاد ابتكاره من إرثه، إذ يزورها سنوياً 760 ألف سائح من حول العالم، يأكلون في مطاعمها ويتسوّقون في متاجرها وينامون في فنادقها ويستمتعون بمشاهدة مسرحيات الرجل الخالد والأمسيات الشعرية التي تنظم قرب بيته. هذا عدا عن زوار البلدة الذين يُعسكرون قبل أسبوع من مهرجان شكسبير السنوي الذي ينظم في 23 نيسان (أبريل)، ويفوق عددهم العشرة آلاف شخص، يتقدمهم موكب الملكة والسفراء والشخصيات السياسية والرسمية. فهذه المناسبة تعلو في المفكرة الأدبية على سواها من المناسبات الثقافية العالمية. سيرة مكان في البيت الأساسي حيث تبدأ زيارة المتاحف- المنازل الخمسة، والذي كان يعتبر الأكبر في شارع «هينلي» (Henley)، ولد وليم شكسبير وإخوته الثمانية وعاش حتى منتصف العشرينات في كنف والدين ثريين هما جون صانع القفازات وماري. هذه البلدة نابضة بالحياة منذ طفولة وليم، فقد كانت بلدة السوق للمناطق المجاورة التي يأتي سكانها للبيع والشراء. وكان «هينلي» شارع التنزّه، إذ كانت التنقلات الأسبوعية من العاصمة البريطانية وإليها تبدأ وتنتهي فيه. لذا كانت حياة وليَم مليئة بالأصوات والصخب. وكان منزل أبيه المبني على الطراز المعماري «تيودور» (Tudor) (وهو المرحلة الأخيرة في المعمار في العصور الوسطى بين 1485 و1603 واستمر في السنوات اللاحقة) يعجّ بالزوار والأحاديث والحوارات الذي غذّت مخيّلة المسرحي والشاعر الأشهر في العالم. فقد كان أبوه رئيس بلدية ستراتفورد، وهو أعلى منصب انتخابي حينها. عندما توفي جون، ورث وليم البيت الذي عاد وعاش فيه مع آن هاثاواي في السنوات الخمس الأولى من زواجهما، قبل أن ينتقلا الى بيتها الرومانسي القريب من شارع «هينلي». وتحوّل بيت الأجداد في غالبيته الى مقهى «The swan and the maiden head». وعندما رحل صاحب «روميو وجولييت» ترك البيت لسوزانا ابنته البكر، ثم ورثته من بعدها ابنتها إليزابيث، التي تزوجت مرتين، لكنها لم تُنجب. لذا أورثت البيت إلى سليل جوان هارت، إحدى شقيقات شكسبير، وبقي في عهدة ورثة آل «هارت» حتى أتت مؤسسة «The birthplace trust» في العام 1847 واشترته لتعتني به حتى اليوم. داخل المنزل يكتشف الزائر الغُرف الصغيرة التي عاش فيها شكسبير وأكل وشرب، والمعهد الخشبي الذي وُضع فيه عندما ولد، والحديقة الخلفية التي لعب فيها، ومحترَف صناعة القفازات الخاص بأبيه، والشبابيك الصغيرة المطلة على الشارع الرئيس. ويمكنه أن يشاهد أيضاً معارض تحتوي على كنوز امتلكها شكسبير، مثل صورة بورتريه وحيدة له مرسومة بالفحم، والكتب التي قرأها وتأثّر بها، وعلبة الدواء الذي كان يتناوله، والريشة التي كتب بها ذات يوم، وأشياء كثيرة من حياته اليومية وحاجاته الخاصة، فالبيت ليس مجرّد جدران وأخشاب، بل هو متحف يستضيف معارض متنوّعة الوساط تتعلق بحياة شكبير وأدبه، ومسرح يتابع فيه الزوار بعض المشاهد من مسرحياته التي يؤديها طلاب مسرح وهواة ومحترفون، وبيت لإلقاء الشِّعر، ومتجر لشراء التذكارات. وإضافة الى البيت الذي ولد فيه شكسبير، هناك بيت زوجته آن هاثاوي وحديقته الشاسعة، وبيت ماري آردن ومزرعتها، وبيت ناش (Nash's house and new place)، ومنزل ابنته سوزانا وزوجها الطبيب جون هول (Hall's Croft). أما البيت الذي توفي فيه شكسبير في العام 1616، فهو بيت ناش، الذي سمي على اسم الثري توماس ناش زوج حفيدة شكسبير ومالك العقار. والى جانبه يرى الزائر «المكان الجديد» (The new place) حيث كان يقع بيت لشكسبير اشتراه في العام 1597 قبل أن يصبح مشهوراً وثرياً في العام 1590. وكان ثاني أكبر بيت في بلدة ستراتفورد، وهو البيت الذي كان يمضي فيه شكسبير كل وقته عندما يأتي من لندن، وقد تهدّم في فترة لاحقة واكتشف فيه علماء الآثار كنوزاً أدبية بين 2010 و2012، تعود إلى أحد أعمال شكسبير، وهو «العاصفة»، إضافة إلى أغراض خاصة أخرى تعرض في المكان. ويعاد الآن بناء هذا البيت كما كان بالضبط، ليفتتح في العام 2016 احتفالاً بمرور 400 سنة على وفاة صاحب «هاملت»، ليكون رمزاً للتراث الإنكليزي ومكاناً يوثق حياة الكاتب العظيم.