لنفرض جدلاً، كما يزعم الكثيرون من عرب وأجانب، أن الذي دفع ويدفع الآلاف من شباب المسلمين إلى قتل أنفسهم هو البحث عن «أقصر» الطرق إلى الجنة والفوز ب «بنات الحور». وإذا فرضنا أن هذا الزعم صحيحاً، فالسؤال الذي يملي المنطق طرحه هو: إذاً، ما الذي يدفع «التاميل» الهندوس في سريلانكا وفي الهند إلى قتل أنفسهم حالياً وفي الماضي القريب؟ وما الذي دفع الملحدين الشيوعيين في موسكو وفي بيترسبورغ فيما بين (وخلال) عامي 1915 و 1917. في روسيا إلى قتل أنفسهم؟ وما الذي دفع المسيحيين المتشددين في وطنيتهم من «النازيين» الألمان وغير الألمان فيما بين وخلال الأعوام 1930 و 1932 إلى قتل أنفسهم؟ لا بد أن يكون هناك سبب آخر أو أسباب أخرى، تدفع شباب المسلمين إلى قتل أنفسهم، غير، أو بالإضافة إلى «البحث عن أقصر الطرق» إلى الجنة؟ ولو كان هذا هو السبب الوحيد، لكان هناك عدد من «الانتحاريين المسلمين» لديهم من الفطنة ما يكفي لسؤال الذين جندوهم: ما الذي يمنع أمثال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري من الخروج من «كهوفهم» والانضمام إلى «المقاتلين الميدانيين» ممن تم تجنيدهم في الجزائر والموصل وجبال اليمن، وغيرها من بقاع الكرة الأرضية، للوصول إلى الجنة بالسير في اقصر الطرق إليها؟ بالطبع لا بد أن يكون هناك هدف آخر يفرض الحفاظ على حياة القادة لتوجيه دفة القتال ضد «الآخر»؟ بالنسبة إلى القادة، فمن الواضح، أن الهدف هو «السلطة»، أما الذهاب إلى الجنة فأمر يمكن تأجيله. أما بالنسبة إلى الشباب المجندين، سواء كانوا في غالبيتهم مسلمين كما هي الحال في الوقت الحاضر، أو كانوا من الهندوس في سريلانكا وما جاورها، أو كما كانوا مسيحيين وملحدين في ألمانيا وفي روسيا، بل و يهوداً في فلسطين قبل إعلان إنشاء إسرائيل في عام 1948، فإن الجواب الشامل، أتى في «كتيب» لم يتجاوز عدد صفحاته 180 صفحة، تمت كتابته في أربعينات القرن الماضي، ولم يتم نشره، بسبب ظروف الحرب الكونية الثانية، إلا في أوائل عام 1951. وهذا الكتاب، الذي كتبه رجل لم يتعد المرحلة الثانوية في تعليمه، كتاب متعمق يبحث العلاقة بين الحالة «النفسية» للفرد وبين «مجتمعه». ولن يكون مفاجئاً لمن قرأ ذلك الكتاب، أن يكون بين المجموعة الإرهابية التي أعلنت عنها وزارة الداخلية السعودية مؤخراً نفرٌ ممن يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه في العلوم الطبيعية والهندسة. فذلك الكتاب الذي تم نشره تحت عنوان «المؤمن الصادق» (**) ما كان يتحدث عن «المؤمن» بالمعنى الديني الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي أو الهندوسي أو غيره، وإنما كان يتحدث عن مؤمن بمعنى آخر. ومن أهم شروط هذا «المؤمن» كما جاء في ذلك الكتاب أن يكون «إنساناً معذباً» يكره نفسه ويبحث جاهداً عن «العتق» من هذه النفس ليس لمجرد «قتل نفسه» لإنهاء عذابه وإنما أيضاً بالانتقام من «الآخر» الذي تم إقناعه بأنه هو سبب تعاسته وعذابه، وليس ظروفه الفردية وذاته. وتاريخ «المؤمنين الصادقين» كما جاء وصفهم في هذا الكتاب ممن انطبق عليهم هذا الوصف من الشيوعيين الملحدين في روسيا والمسيحيين النازيين في ألمانيا والصهاينة المتشددين من اليهود في فلسطين بأن «القادة» الموجهين لهم والمشرفين على تجنيد الملائمين للتجنيد منهم وللقتال ضد «الآخر الظالم» لهم، دوماً يكونون من المثقفين والفنانين الذين كانوا مقتنعين بأن مجتمعهم لم يقدرهم بالقدر الذي «يستحقونه». ومن الأمثلة على ذلك قادة «الإرهابيين» الشيوعيين كلينين وتروتسكي وبوخارين، الذين كانوا من المثقفين الذين كانوا يشعرون بالإحباط لأن مجتمعهم «الرأسمالي المسيحي المتخلف» لم يقدر مواهبهم وقدراتهم حق قدرها. وكذلك الحال بالنسبة إلى قادة الإرهابيين الصهاينة، فقد كانوا «مثقفين» يعتقدون أن المسيحيين الذين عاشوا بينهم لم يقدروهم حق قدرهم بسبب يهوديتهم. وهتلر وأهم أعوانه كانوا «فنانين» و «مثقفين»، لم يعطهم مجتمعهم ما كانوا جازمين بأنهم يستحقونه. والخلاصة أن قادة كل فئة تعاطت الإرهاب وتفوقت في تطبيق فنونه وأدواته، لم يحققوا أي درجة من درجات النجاح في ترويع الآمنين، دع عنك النجاح في الفوز بتولي الحكم، بوجود المعذبين الكارهين لأنفسهم المستعدين لقتل أنفسهم فحسب، فهذا شرط «ضروري» ولكنه غير «كاف» كما يقول علماء الرياضيات. والسبب الآخر الذي لا بد أيضاً من توافره، بالإضافة إلى وجود المعذبين الكارهين لأنفسهم، وما أكثرهم في كل المجتمعات منذ فجر التاريخ، هو اختلاق «الآخر» الذي يتم إقناعه، وربما إقناع الكثيرين غيره، بأنه هو سبب ما يشعرون به من تعاسة فردية أو حتى من معاناة مادية أو هزائم عسكرية. والأحزاب التي رفعت شعار «الإسلام» للوصول إلى السلطة، تستغل الهزائم العسكرية، وتحارب «الولاء للوطن» وتحث على التشدد وتحريم المباح، لخلق «فكر» يساعد على تجنيد الشباب، اما سياسياً لتولي الحكم بالطرق السلمية إن أمكن ذلك، أو بغيرها، لإيجاد المبررات للمتطرفين المتشددين باسم الدفاع عن معتقدات الأمة لتكفير الأمة وقتل رموزها. ولعل الكثيرين يذكرون حينما قال سماحة مفتي السعودية، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، أن «قتل النفس» لا يجوز ولا يجوز تبريره باسم الجهاد، عدد المعترضين على تلك الفتوى من خارج السعودية، و «الصمت» الذي كاد «يفجر الآذان» كما في المثل الأجنبي، الذي قُوبِلتْ به فتوى المفتي على المستوى الداخلي بين بعض من يزعمون المعرفة الشرعية من كتاب وخطباء. وبالنسبة إلى «القاعدة» التي خرجت كما هو معروف من عباءة سيد قطب وتلاميذه الذين نشروا ثقافة «التكفير»، فإن الآخر بالنسبة اليها هو بالدرجة الأولى السعودية قيادة وشعباً. وما «غزوة» نيويورك وواشنطن، التي صفق لها الكثيرون إلا بهدف تدمير العلاقة المتميزة بين السعودية والولايات المتحدة سعياً وراء إضعاف الدولة السعودية، أي أن الهدف كان السعودية وليس أميركا كما زعمت الأحزاب التي رفعت شعار الإسلام. لقد نجحنا في «محاربة» الإرهاب عسكرياً. والأمل بأن نحقق نفس درجات نجاح المجابهة العسكرية في محاربة «فكر» الإقصاء والتكفير. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي ** «The True Believer, Thougts On The Nature Of Mass Movements» By Eric Hoffer, 1951