في أواخر الصيف من كل سنة، تستعدّ بلايين الطيور المستقرّة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية لإتمام إحدى أجمل وأغرب وأعجب الظواهر الطبيعية: الهِجرة الموسمية العابرة للقارات. وتلاحظ هذه الظاهرة عند كثير من الكائنات الحيّة. وتشمل الحشرات والأسماك والطيور وبعض أصناف الثدييات. وإذا كانت الهِجرة البشرية تسري من بلدان الجنوب النامية إلى دول الشمال الصناعية المتقدمة، فإن هِجرة الطيور تسير في إتّجاه معاكس جغرافياً. إذ تحلّق الطيور المهاجِرة لتنتقل من الشمال البارد إلى الجنوب الدافئ. تتجلى أهمية الطيور في عالم الحيوانات في أنها تعتبر ثاني أهم الأنواع في قائمة الكائنات الحية بعد الأسماك. ويصل عدد أصنافها إلى قرابة 8600، أي أنها أكثر تنوعاً حتى من الثدييات التي لا تتعدى 4200 صنف، على رغم أنها تحظى بالسيادة على الكائنات الحيّة وبالسيطرة عليها. ويعتقد كثيرون من علماء البيولوجيا التطورية «إيفوليوشنري بيولوجي» Evolutionary Biology أن الطيور ظهرت إلى الوجود قبل ظهور الثدييات نفسها. وفي السنوات الأخيرة، أثارت بعض الدراسات احتمال أن تكون الطيور إمتداداً لأنواع من الديناصورات، وهي الحيوانات التي تسيّدت الأرض ثم انقرضت قبل ظهور الإنسان بعشرات الملايين من السنين. وتعتبر «ذبابة هيلين» التي يبلغ طولها 6 سنتمترات بما في ذلك الذيل ووزنها غراماً ونصف غرام، أصغر نوع من الطيور. وينظَرُ الى النعامة بوصفها أكبر أنواع الطيور، بل يُظَنّ على نطاق واسع أنها فقدت قدرتها على الطيران نظراً الى ثقلها الذي قد يصل حتى مئة كيلوغرام. أوطان الطير متعدّدة تنحصر أسباب الهِجرة عند بعض أنواع الطيور في الهروب من برودة الشمال، إضافة إلى قلّة الغذاء في بعض فصوله. وفي المقابل، يتمثّل السبب الأساسي لتلك الهِجرة في الصراع من أجل البقاء. وعلى رغم ذلك، لا يعود ثلث الطيور من رحلة الهِجرة، بسبب الجوع أو الظروف المناخية أو تحوّل الطيور المهاجرة نفسها لمواد أولية تتغذى عليها كائنات أخرى أكثر قوة وأشد قدرة على الإفتراس. وتمتلك الطيور المهاجرة وطنين على الأقل، بحسب نظرة العلماء إليها، أولهما حيث تضع بيوضها، والثاني حيث تهاجر. وغالباً ما يفصل بينهما آلاف الكيلومترات. وفي العادة، تهاجر الطيور ذهاباً بين أواخر الصيف وأوائل الخريف، إلى المناطق الأدفأ حيث تقضي فصل الشتاء. وتؤوب في فصل الربيع عندما يحين زمن وضع بيوضها. لكن كيف يتّخذ الطير قرار الهِجرة؟ يبقى ذلك لغزاً. وتشير بعض البحوث العلمية إلى أن الامر عبارة عن «برنامج» يأتي من جينات الطير نفسه، وكل بحسب نوعه. واستطراداً، يبدو أن الأمر يتعلق بغريزة ذاتية تتحكم في إفرازات هرمونية في أوقات معينة من السنة، كأن يكون ذلك عند قصر النهار وانخفاض درجة الحرارة. ومع تلك المتغيّرات، تظهر على بعض الطير أعراض تشبه القلق، ويميل الى الإكثار من الأكل، كما ينبت لبعضها الآخر ريش من نوع معين. وتعتبر تلك الأشياء كلها بوادر للهِجرة الموسمية. وفي بعض التجارب العلمية، وضعت الطيور في أقفاص لإبعادها عن أثر الطبيعة. وعلى رغم ذلك، ما إن حلّ فصل الخريف وقت هِجرتها، حتى لوحظ انها تعاني من قلق وتبدأ في هزّ قضبان القفص. وبعد بعض الوقت، هدأت الطيور السجينة، بالتزامن مع وصول القطعان الطليقة الى مقصدها! وأحياناً تسبق الطيور الحديثة السن آباءها في الهِجرة، من دون ان تكون لها أي دراية بتفاصيل الهِجرة. وقد تجتمع أعمار مختلفة في السرب عينه، كأنما للإفادة من خبرة الأقدم عمراً. ولتحديد طريق الهِجرة، تعتمد الطيور على وجهة الشمس وموقع النجوم، بحسب طبيعة سفرها ليلاً أو نهاراً. ومن المحتمل ان تؤدي بعض الظواهر الفيزيائية دوراً في توجيه الطيور مثل الحقل المغناطيسي وجاذبية الأرض، بل هناك جهة في دماغ الطيور تعمل وكأنها رادار، يوجه الطير بحيث يستطيع معرفة طريقه في الفضاء. ويختلف علو تحليق الطيور باختلاف صنف الطير وطبيعة التضاريس والمناخ. إذ يحلّق طير الإوز على علو يصل إلى مسافة 9000 متر، وهو عين العلو الذي تسير الطائرات فيه. ويطير البط على علو 500 متر. وتقطع بعض الطيور البحر فتحلق بمحاذاة أسراب طيور الماء. وقد لا يتجاوز ارتفاع تحليق الأسراب المهاجرة من الطيور الصغيرة ال 300 متر. وتفضل بعض الطيور السفر خلال الليل. ويختار بعضها الآخر النهار. وفي المقابل، تسافر أسراب اللقلاق وطير الخُطاف، من دون أن تُظهر تفريقاً بين الليل والنهار. وتتراوح سرعة طيران الكواسر والطيور الصغيرة بين 50 و60 كيلومتراً في الساعة. وتصل سرعة تحليق البط حتى 80 أو 95 كيلومتراً في الساعة. وتُسجّل بعض الطيور البحرية سرعة طيران يتعدى حدّها الأقصى ال 600 كيلومتر في الساعة. وتخلّف الظروف المناخية أثراً كبيراً على سرعة الطيران. وغالباً ما تفضل الطيور الرياح الجانبية. اذا كانت بعض الطيور تهاجر منفردة، فالغالبية تجتمع اسراباً يضم كل منها بين 5000 و10000 طير. وأحياناً، يلاحظ تجمع أصناف متشابهة في الحجم. وتزداد تجمعات الأسراب خلال عملية الهبوط. الاقتصاد في استهلاك الطاقة يطير السرب عادة على شكل مثلث. وتفيد تلك الطريقة في الاقتصاد في استهلاك الطاقة. فباستثناء الذي يوجد في المقدمة، لا يعاني السرب مشكلة مواجهة الهواء. وتتناوب الطيور موقع المقدمة. وتطير النوارس على شكل خط أفقي، إذ يحلق أحدها خلف الآخر. وتأخذ أنواع أخرى شكل خط منحرف أو عمودي. وتحلّق بعض الأسراب على شكل موجة. وتميل غالبية الطيور، خصوصاً الصغيرة منها، إلى الطيران من دون أن تنتظم أسرابها في شكل معين. تقطع بعض انواع الطيور الرحلة سباحة مثل التي تعيش في القطب الشمالي. وباستخدام الرادارات، اتّضح للعلماء أن طائر الخطّاف والطائر الذبابة يقف وسط الصحراء للراحة بينما كان يعتقد ان الرحلة تتم من دون توقف في الصحراء. ونظراً لان الرحلة تتطلب مجهوداً جباراً مع استهلاك كمية ضخمة من الطاقة، تستغل الطيور فترة ما قبل الرحلة كي تراكم الدهون التي تعتبر أضخم خزان طبيعي للطاقة. وبالنسبة لمسألة طول الرحلة، قد يبقى بعض الطير في البلد نفسه أو القارة نفسها. وتثير الأنواع التي تهاجر من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، كثيراً من الدهشة. إذ يصل طول المسافة لرحلة مفردة إلى 11500 كيلومتر. ويقطع طائر «ليموزا يابونيكا» تلك المسافة من دون توقف، محلقاً عبر المحيط الهادئ من شمال الكوكب الارضي حتى جنوبه. ولانجاز سفر عبر نصف الكرة الأرضية، يجب أن تشكّل الدهون أكثر من نصف وزن هذا الطائر الذي يبلغ طوله قرابة 40 سنتيمتراً. وتحلّق أنواع مُشابهة من الطيور مسافة تصل إلى 65 الف كيلومتر، خلال فترة تتراوح بين ستة وتسعة أشهر. ونظراً الى موقعه الجغرافي الاستراتيجي، يشكّل العالم العربي طريقاً رئيسية لهِجرة أسراب الطيور المتوجهة إلى افريقيا. وكذلك يعتبر وجهة مطلوبة للطيور ذات الرحلات المتوسطة، خصوصاً تلك التي تعبر جهة جبل طارق غرباً ومنطقة البوسفور شرقاً. ويعدّ المغرب أهم منطقة شتائية في شمال افريقيا لاستقرار الطيور المهاجرة، خصوصاً النوع المعروف باسم «ليموزا ليموزا» الذي ينقسم إلى 27 صنفاً، يضم كل منها مئات آلاف الطيور. ومن المناطق المشهورة باستضافتها الهجرة الموسمية للطيور، منطقة مولاي بوسلهام (جنوب مدينة طنجة) ومنطقة سوس ماسة (جنوب مدينة أغادير). وكذلك يعتبر السودان أحد أهم المواطن التي تستقبل الطيور. ويسجل استقبال 147 نوعاً من الطيور المُهاجرة سنوياً. وتشكل منطقة الشرق الأوسط مكان استقرار لعدد من أصناف الطيور الاوروبية. ومن ضمن المخاطر التي قد تنجم من هِجرة الطيور بالنسبة للانسان، يأتي اصطدام بعض أسراب الطيور بالطائرات، ما يؤدي إلى عطب في المحرك. وكذلك قد تحمل الطيور المهاجرة فيروسات بعض الاوبئة، كالحال في جائحة «أنفلونزا الطيور». ومع ذلك، لم تُسجّل سوى إصابة إنسانية وحيدة بفيروس «أنفلونزا الطيور» نقلته الأسراب المُهاجرة إلى أوروبا.