تؤكد أي رؤية موضوعية لاقتصادات بلدان الخليج بأن هذه البلدان، خصوصاً الأعضاء في «أوبك»، ستظل مصدرة للنفط لعقود، وستبقى معتمدة على إيراداته. ولذلك فأي حديث حول تعزيز مساهمة الإيرادات غير النفطية في مداخيل الخزينة العامة يستدعي وضع إستراتيجيات واقعية لتطوير القاعدة الاقتصادية وتعزيز النشاطات غير النفطية. لكن التساؤل المهم هو: كيف يمكن تطوير تلك النشاطات فيما تتزايد معدلات الإنفاق العام والأعباء الاجتماعية بسبب التزايد السكاني وارتفاع مستويات الاحتياجات الاستهلاكية؟ يتعين على بلدان الخليج التي أجرت لسنوات دراسات، استخلاص تصورات لما يمكن القيام به من أجل تنويع القاعدة الاقتصادية. ثمة أعمال ونشاطات كثيرة لا يمكن ان تحقق جدوى اقتصادية من دون تحميل الأموال العامة تكاليف الدعم. ولذلك فالنشاطات الاقتصادية المناسبة هي تلك التي يمكن ان تعتمد على مبادرات القطاع الخاص وقدرته على المخاطرة المحسوبة النتائج، وعلى اليد العاملة الوطنية، ويمكن لها ان تسوق مخرجاتها في الأسواق المحلية والإقليمية والدولية بموجب المعايير الموضوعية للمنافسة. حاولت بلدان خليجية على مدى سنوات ان تشجع رجال الأعمال على توظيف الأموال في صناعات تحويلية أو خدمية بموجب شروط ميسرة وأمنت دعماً متنوعاً لهذه الأعمال. وكان من أهم عوامل الحفز الحكومية دخول الدولة كشريك في عدد من الأعمال مع القطاع الخاص ما أمّن الأموال اللازمة، وتقديم التمويل من خلال آليات النظام المصرفي التقليدي أو المتخصص، وتخصيص أراضٍ للمشاريع، وتمكين المشاريع من استخدام الكهرباء والمياه وغيرها من مرافق البنية التحتية بأسعار متدنية. لكن هذه الإستراتيجية لم تكن ذات مردود كبير اقتصادياً أو اجتماعياً، وبات يتعين إعادة النظر في المفاهيم من أجل إيجاد العوامل المناسبة لقيام نشاطات وأعمال لتعزيز إمكانات تنويع القاعدة الاقتصادية. وواجه كثير من المشاريع والأعمال تحديات الواقع الاقتصادي وانعدام الجدوى أحياناً كثيرة ما كشف الجهات الممولة على مشاريع لا يمكن لها مواجهة الالتزامات بسبب عدم قدرتها على تحقيق الإيرادات اللازمة. ولم يتمكن كثير من تلك المشاريع من توظيف أعداد مناسبة من قوة العمل الوطنية وظل يعتمد على العمال الوافدين. مؤكد ان عملية تنويع القاعدة الاقتصادية في البلدان التي تعتمد على النفط كمصدر رئيس للدخل معقدة وصعبة. لكن لا يمكن لهذه البلدان ان تصنع مستقبلاً اقتصادياً واعداً من دون الدخول في هذه العملية الصعبة ومواجهة تحدياتها الكبرى. ويتعين على صناع القرار الاقتصادي ان يتبصروا في الإمكانات المتاحة وكيف يمكن تعزيز مساهماتها في إطلاق نشاطات اقتصادية مجدية. وسبق لدول نامية ان حاولت ان تولي التصنيع أهمية في برامجها وخططها الاقتصادية لكن لأسباب كثيرة لم تحصد تلك البلدان أي نتائج إيجابية وأصبحت صناعات كثيرة عبئاً اقتصادياً. ولا شك في ان بلدان الخليج لا تملك العناصر الملائمة لقيام صناعات تحويلية مثمرة، لكن هناك إمكانات لصناعات تعتمد على المواد الأولية المتأتية من النفط أو الغاز، وهكذا فالصناعات البتروكيماوية والبترولية يجب ان تولى الاهتمام المناسب، كما ان هذه الصناعات قد تكون أكثر جدوى في بلدان خليجية محددة وليس كلها، بما يتطلب التنسيق في الإستراتيجية الصناعية بين بلدان المنطقة. وتعتمد هذه الصناعات على العمال الماهرين ما يبرز أهمية تدريب الكوادر الوطنية لشغل المواقع المهنية فيها. ويضاف إلى ذلك ان منتجات هذه الصناعات لا بد ان تتجه إلى الأسواق العالمية بما يؤكد أهمية التفاوض مع البلدان المستهلكة لتحرير تجارة المواد النفطية والبتروكيماوية والصناعات التابعة وإلغاء أنظمة الحماية القائمة بما يوجد أوضاع تنافسية تعزز من فرص تسويق المنتجات. وتظل نشاطات الخدمات من أهم النشاطات الاقتصادية في بلدان الخليج حيث تقدّم المستويات المعيشية الجيدة إمكانات مهمة لتسويق الخدمات. وهيمنت الحكومات على النشاطات الأساسية في قطاع الخدمات مثل الطاقة الكهربائية وتمديدات المياه والرعاية الصحية والتعليم والنقل، ولذلك فبرامج التخصيص يمكن ان تحول هذه الخدمات بالكامل أو بالشراكة إلى القطاع الخاص. ويفسح التخصيص مجالاً مهماً للشراكة بين القطاع الخاص الوطني والشركات العالمية المتخصصة في هذه الخدمات بما يؤدي إلى الارتقاء بالجودة واستخدام تقنيات حديثة. ويمكن النشاطات المذكورة ان توجد إمكانات أفضل لتوظيف المواطنين بعد تأهيلهم من خلال التعليم وبرامج التدريب. ويقدم برنامج التخصيص لهذه الخدمات فرصة لقيام الحكومة بتطبيق ضرائب الدخل على الشركات وتحقيق إيرادات مهمة للخزينة العامة بما يعزز الإيرادات غير النفطية. وقد لا تطبق الضرائب في شكل فوري حيث يمكن ان توجد الحكومات فسحة من الوقت لتمكين الشركات الخاصة من جني أرباح مناسبة وتوظيف هذه الأرباح من أجل التوسع أو الارتقاء بالأعمال، ولكن بعد حين لا بد من جباية الضرائب. والأهم ان عملية تنويع القاعدة الاقتصادية في بلدان الخليج تستلزم التوظيف الأمثل للعنصر البشري والذي يمثل أهم العناصر الاقتصادية، إذ تفتقر هذه البلدان للموارد الأخرى ما عدا النفط والبحر. وعلى رغم مرور قرن على بداية التعليم النظامي في بلدان المنطقة، تبقى مخرجات التعليم دون الطموحات، ولذلك آن الأوان كي يصبح النظام التعليمي أكثر قدرة على إنتاج الكوادر البشرية المناسبة لإيجاد قاعدة اقتصادية متنوعة ومتمكنة من مواجهة كل التطورات الاقتصادية المحتملة محلياً وعالمياً. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - الكويت