على عكس الحلم - لم أضل طريقي، وجدت المفتاح، صعدت الدرج الصحيح، أدرت المفتاح في القفل الصحيح، مفتاح الضوء موجود في مكانه، في غمضة عين رأيت كل شيء أمامي، رأيت مصباحين عموديين يضيئان غرفة كبيرة فيها مجموعة من الأرائك وطاولة طعام طويلة ناحية الجدار المقابل محاطة بالمقاعد. دفعت لسائق التاكسي ما يبدو أنه أرضاه من تلك العملات الغريبة، التي كنت صرّفتها لحسن الحظ قبل مغادرتي برلين، شكرته بلطف وتلقيت الإجابة المعهودة: You are welcome, Madam (عفواً سيدتي). تفقدت شقتي: إضافة للغرفة الكبيرة هناك مطبخ مجاور، وغرفتا نوم، وحمّامان. يا له من هدر. يمكن عائلة من أربعة أفراد أن تعيش هنا بسهولة، كان هذا تفكيري في تلك الليلة الأولى، بعدها تعودت على الرفاهية. على الطاولة رسالة ترحيب من سيدة تدعى أليس، لا بد أنها زميلة من «المركز»، هي التي كانت توقع الدعوات، على الأرجح أنها أيضاً التي اهتمت بوضع الخبز والزبدة وبعض المشروبات في المطبخ. تذوقت بعضاًً من كل شيء، فاستطعمت مذاقاً غريباً. ذكرت نفسي أن هناك - حيث جئت - كان الصبح قد طلع، ويمكنني إجراء مكالمة هاتفية من دون أن أزعج أحداً أثناء نومه. بعد محاولات فاشلة، بذل فيها عدد من عاملي الاتصالات الدولية الجهد معي، تمكنت من التوصل للأرقام الصحيحة من «كابينة التليفون» الصغيرة المجاورة لباب الدخول، فسمعت من خلف هدير المحيط ذاك الصوت المألوف. كان هذا الاتصال الهاتفي الأول ضمن مئة اتصال ببرلين في الشهور التسعة التالية. قلت إنني وصلت إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، ولم أقل - ما لم أسأل نفسي عنه - ما جدوى ذلك. قلت أيضاً إنني مرهقة - وكنت كذلك فعلاً - إرهاقاً غريباً. بحثت عن ملابس النوم في حقيبتي، غسلت وجهي ويدي، استلقيت على السرير الضخم الشديد الطراوة، وانتظرت النوم طويلاً. في الصباح الباكر استيقظت من منام صباحي إذ سمعت صوتاً يحدثني: الوقت يفعل ما يعرف... يمضي! كانت تلك هي الكلمات الأولى التي دونتها في الدفتر المسطّر الذي اهتممت بإحضاره معي ووضعته على ركن طاولة الطعام، وقد امتلأ سريعاً بالكثير من الملاحظات التي أستند إليها اليوم. خلال ذلك كله مر الوقت كما أخبرني الحلم باقتضاب، وهو ما كان وما زال من أكثر الأمور المحيرة بالنسبة لي، والتي أعرفها وكلما مر العمر تعذر عليّ فهمها. أن يخترق شعاع فكرة طبقات الزمن ذهاباً وإياباً بين الماضي والمستقبل أمر يبدو كالمعجزة، أما الحكي فهو شريك في تلك المعجزة، لأننا من دون هذه النعمة ما كنا نجونا وما استطعنا البقاء. على سبيل المثل يمكن أن تدع مثل هذه الأفكار تعبر الرأس أثناء تصفح حزمة التعليمات التي وجدتها صباحاً على طاولتي في الشقة: «تعليمات السلامة» التي يوفرها «المركز» للوافدين الجدد في يومهم الأول، وبها تعريف بأقرب المتاجر والمقاهي والصيدليات، كما يوجد وصف للطريق إلى المركز وقواعد العمل، وبالطبع يوجد رقم هاتف صاحب المركز الذي يمكن الاتصال به خلال النهار والليل. هنا أيضاً قائمة بالمطاعم ومحال الوجبات السريعة، إضافة إلى المكتبات والمناطق السياحية والرحلات والمتاحف، والحدائق العامة ووسائل الانتقال، وأخيراً وليس آخراً يتم التشديد على توجيه عناية الوافد الجديد العديم الخبرة للقواعد المتبعة في حال حدوث زلزال. أخذت هذا كله على محمل الجد، تدبرت قائمة الحائزين على المنحة الآتين من شتى البلدان، والذين سيصيرون زملائي خلال نصف العام التالي، ولا بد أنهم سينخرطون كأعضاء في منظومة الصداقة، بينما عليهم أن يتناثروا مع الريح، أي يعود كلٌّ إلى بلاده. زلزال قوي وقع بعد وصولي، وظل فالق سان أندرياس الذي يمر تحت المدينة - يشكل خطراً كبيراً، حيث تسبب في زحزحة كتل أرضية ضخمة. لو أن أحداً كان أطلعني على صورة العالم اليوم، ما كنت لأصدق، على رغم أن رؤيتي للمستقبل وقتها كانت قاتمة بما يكفي. يبدو أن البقية من السذاجة التي لا بد أنني كنت أتحلى بها وقتئذ قد انقضت. بقيت لي خصلة يصعب الامتثال لها، إلا أنها تظل غير قابلة للرجوع فيها فتحصن نفسها باستمرار هي: تتبع أثر الألم.