منذ فترة والمواطن السعودي يستمع أو يقرأ كلمات خادم الحرمين الشريفين التي تحدث كثيراً من خلالها عن الإصلاح للمجتمع السعودي ولمؤسساته كافة. وربما يسأل المواطن عن مفهوم هذا الإصلاح؟ وكيف يتم؟ ومن أين يبدأ؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بد لنا أن نوضح في البداية دور الباحثين الذين دأبوا على التمييز دائماً بين اتجاهين مختلفين هما: الإصلاح الذي يصل بالنهاية إلى التحديث، والإصلاح الذي يرتبط فقط بالمجال الديني. والمعروف أن الحضارة العربية الإسلامية منذ قيامها حرصت على بذل جهود متواصلة للتقريب بين معاييرها من ناحية، وقيمها الدينية من ناحية أخرى، وكذلك واقعها المعيشي حتى وصلت تلك الحضارة إلى نوع من التحديث، لكنه كان ولا يزال مرهوناً بامتداد الحضارة الغربية الأوروبية إلى البلاد العربية منذ عصر الاستعمار، وحتى بعد أن نالت معظم دول العالم، بما فيها العالم العربي، استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، إذ لم تستطع دول العالم العربي أن تتحرر بكامل ذاتها من ارتباطها بحضارة الغرب، فبقي المجال الديني على ما هو عليه من دون إصلاح، كما بقيت المجتمعات العربية تواجه مشاكل وقضايا التحديث وهي تعيش مراحل انتقالية تاريخية من دون أن تعي أهداف تلك المراحل، أو الانتقال منها ولكن إلى أين؟ فكانت هي المعضلة الأساسية التي تعد مثاراً للخلاف الدائم. الآن أصبحنا نعيش مرحلة تاريخية مختلفة تماماً، تتطلب منا بين فترة وأخرى إجراء إصلاح جدي يبدأ أولاً من ذواتنا، وأعني بذلك ذات كل فرد أو مؤسسة في البلاد، بعيداً عن مظاهر الرياء من أجل تحقيق التوازن المطلوب مع الذات الإنسانية ثم مع الآخرين، بغية تحقيق الأهداف المرجوة التي طالما خشيها «العُميان» الذين يعيشون بيننا ولا يرغبون الإيمان بحقيقة التطور التاريخي الطبيعي للمراحل التي توجب معها إصلاحاً وتطويراً جدياً للمؤسسات والقوانين في البلاد كافة، والتي لم تعد تتوافق مع تقاليد الناس وحاجاتهم وآرائهم، إذ هربت الروح منها ومن أشكالها التي لم تعد هي الأخرى تكترث بها مشاعر الناس وفهمهم لها، إلى الحد الذي يمكنها من الاستمرار معهم كرابط لهم في مجالات العمل المؤسسي أو الاجتماعي كافة بالدرجة الأولى. يصف عالم الاجتماع «دانيال لرنر» المجتمع التقليدي بأنه مجتمع غير مشارك، فالأفراد من وجهة نظره يعيشون في المجتمع التقليدي في وحدات، كل منها منعزلة عن الأخرى وعن المركز، على عكس المجتمع العصري الذي يصفه بالمجتمع المشارك، نظراً لوجود علاقات مترابطة ومتبادلة بين الجوانب المختلفة في المجتمع العصري، بحيث يتدرج عن مراحل تسلسلية من العمل على التحديث المدني لسلوكيات وقيم واتجاهات الأفراد، وتطوير أداء المؤسسات من خلال إجراء التغيير المستمر لقوانينها بما يتماشى مع متطلبات كل مرحلة تاريخية، إلى أن يصل لمستوى متحضر معين يقود أفراد المجتمع بالتالي إلى العمل على زيادة ورفع مستوى التعليم لديه، وتنمية الاتصالات، وزيادة المشاركة حتى يصل هذا المجتمع إلى مرحلة التحديث والتنمية بمفهومها العصري. عاشت الشعوب العربية إلى أن وصلت إلى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة، وهي لا تزال في طور التخلف عن الوعي نتيجة لحقبة الاستعمار عليها، ولكون التخلف يرتبط مفهومه العلمي أساساً «بعلم الاقتصاد»، وتتعلق معاييره بالمتغيرات الاقتصادية، فأصبح من المسلم به أن البلاد العربية التي تعاني من تخلف سياسي هي البلاد نفسها التي تشكو من التخلف الاقتصادي، وهي البلاد نفسها التي لا تؤمن سياساتها بضرورة الإصلاح الشامل والتغيير من أجل تحديث قوانين وأنظمة مؤسساتها الرسمية، فبقي - مثلاً - التخصيص المسبق للأدوار الاجتماعية يدور في نسق متخلف، يتم بالتخصيص المسبق بحكم النشأة أو علاقات القربى أو الجاه والثروة، بينما نرى أن تخصيص مثل هذه الأدوار في النسق المتقدم يقوم على أساس الاستحقاق، نظراً للكفاءة والتأهيل، لأن الوضع الاجتماعي يظل مكتسباً بالانجاز الفعلي وليس متخصصاً سلفاً منذ نشأة الأفراد، كما أن الدولة التي تعاني من ظروف التخلف الاقتصادي والاجتماعي في بلادنا العربية، ولا تسعى إلى الإصلاح الذاتي، تجلب معها أعباءً جديدة على النسق السياسي الذي يعاني هو الآخر من تخلف واضح للجميع، فنراها تتولى - مثلاً - دوراً عقائدياً مهماً تصيغ من خلاله العقائد السياسية، وتروج وتدعو لها في محاولة منها لدمج التراث القديم مع القيم الحديثة الباعثة على الفعالية، والإنتاج من أجل تعبئة المجتمع بهدف تحقيق التنمية، إلا أنها في واقع الحال تبقى تنمية ناقصة تتراكم القضايا فيها وتتعدد لتصبح عدواً يواجه المجتمع المتخلف العازف عن إجراء أي إصلاح جذري يقوده نحو التغيير المنشود من أجل الانتقال إلى التحديث الشامل. ولكي ندرك بأن أي عملية إصلاح جذري ستكون ناجحة في المجتمع السعودي، فإن خطواتها الأولى تبدأ من الأفراد ذاتهم في المجتمع الذين يسعون بعدها لإصلاح قوانين مؤسساتهم، بحيث تكون عملية التحديث المنشودة كهدف أساسي للوصول إليها في نهاية المطاف هي الأخرى شاملة بقدر التخلف نفسه الذي كان ولا يزال عملية شاملة تحيط بجوانب البنى الاقتصادية والاجتماعية والمهنية كافة داخل البلاد وبين أفراد المجتمع. لذلك فإن عملية التحديث من المفترض أن تكون ممتدة وغير محددة بالزمان كونها تعد عملية تاريخية غير مقصورة على نمط حضاري محدد، أياً كانت قيمة هذا النمط التاريخي، ودوره في تطوير الحضارة البشرية، إضافة إلى وجوب شمولها لجوانب المجتمع من دون أن تقتصر على جانب معين دون غيره. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر.