ليس جديداً أن تبدي عواصم القرار الأوروبي والأميركي اهتماماً أكبر في الوقت الحالي حيال الأوضاع غير المستقرة في منطقة الساحل جنوب الصحراء. فقد اتخذتها إدارة الرئيس بوش ذريعة لإنشاء قوات «أفريكوم»، من دون أن تفلح في الاتفاق على إقامة قواعد عسكرية دائمة في بلدان جوار الساحل الصحراوي. فيما الأوروبيون الذين كانوا يلوحون بتصعيد الحرب على الهجرة غير الشرعية القادمة من أدغال أفريقيا باتوا أكثر اقتناعاً، وتحديداً باريس ومدريد، ان المخاطر التي تهدد مصالحهم ستأتي من بؤرة الساحل أكثر من غيرها. من جهة لأن تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي ما فتئ يهدد بضرب المصالح الغربية، ومن جهة ثانية لأن المنطقة ذات المساحات الشاسعة حيث تتداخل الحدود بين مالي والجزائر والنيجر وموريتانيا تكاد لا تخضع لرقابة تضبط إيقاع التحركات المثيرة للاشتباه. لعلها ملامح حرب استباقية يندفع وراءها الأوروبيون والأميركيون لتجنب نشوء أفغانستان جديدة في الساحل جنوب الصحراء. ولا تعني الزيارات المكثفة لقادة عسكريين وخبراء ميدان ورجال استخبارات الى العواصم المنسية في نيامي وباماكو ونواكشوط هذه الأيام سوى أن هناك إحساساً مشتركاً بأن المنطقة يمكن أن تعتلي الواجهة في أي وقت، فقد أظهرت تحريات ومعلومات استخبارية أن الرمال المتحركة في المنطقة كانت تحمل معها مشاعر غاضبة تهب في اتجاه استقطاب المتطوعين الى جانب المقاومة في العراق وتشكيل تنظيمات متطرفة اقامت صلات في أوساط المهاجرين العرب والمغاربيين في أوروبا. فيما يخشى أن تكون لتداعيات الحرب في العراق وأفغانستان امتدادات عبر الهجرة الى منطقة الساحل والاستقرار فيها. كونها أشبه بملاذ لإيواء وتفريخ التنظيمات المناهضة للغرب. مبعث التفكير بمنطق استباق الأحداث أن أميركا في عهد الرئيس باراك أوباما لا ترغب في تكرار تجربة الحرب على العراق التي تولدت عنها حروب أخرى، وفي أقل تقدير فإنها تسعى للإفادة من الوفاق مع الأوروبيين الذين تعتبر منطقة الساحل أقرب الى حدودهم ومخاوفهم، يضاف الى ذلك أن بلدان جوار الساحل لا تمانع في الاتفاق على أي أجندة تجنبها الغرق في مستنقع الانفلات الأمني. فالتجربة الجزائرية المريرة في التصدي للحركات المتطرفة وبسط نفوذ الدولة ما زال تأثيرها بادياً، ومن المفارقات انه في الوقت الذي كانت ترتفع الأصوات الجزائرية محذرة من مخاطر تنامي التطرف، لم تجد الآذان الصاغية، واحتاج الأوروبيون لأن يخوضوا غمار معارك ومفاوضات للإفراج عن رعاياهم المختطفين عند خلجان كثبان الرمال كي يقتنعوا بأن ثمة مخاطر تهددهم في حال الاستسلام. كذلك فإن الأميركيين الذين لم يكونوا بعيدين عن رصد صراع السلطة في الجزائر أدركوا من خلال التجربة أن حربهم ضد الإرهاب لا تختلف عن أي حرب أخرى لتأمين الوجود وحماية الحدود. الأهم في رسم أكثر السيناريوات احتمالاً في التعاطي مع الأوضاع المشتعلة في الساحل جنوب الصحراء انه يضع في الاعتبار استقراء حال ما بعد الحرب على العراق وما هو أبعد في تكييف نتائج الحرب المتواصلة على مستويات عدة في أفغانستان. لكن الإمعان في تجاهل خلفيات الحال الأفغانية والوضع في العراق لا يشجع على نهج الاختيار الصائب، فقد تركت أفغانستان لتعيش بؤسها خارج منظومة العصر ، تماماً كما ترك العراق فريسة لحصار أعاده الى قرون غابرة، ما أفسح المجال أمام عودة نزعات طائفية وعشائرية متقادمة. ولم تكن فرقعات السلاح مقبولة للمساعدة على نقل المجتمعين العراقي والأفغاني الى تمنيات حضارة الحروب، ان كان يصدق الوصف. أفريقيا نفسها التي دفعت كلفة غالية في الحرب الباردة، لم تستطع الانعتاق من معضلاتها المتمثلة في انتشار الفقر والمرض والحروب الأهلية والصراعات العرقية وأنواع الاستعباد المشينة. فهي في أمسّ الحاجة الى مشاريع انمائية تتيح لها فرص الاندماج في تحولات العصر، وليست في حاجة الى قواعد عسكرية تدار فيها الحروب بالوكالة. وما لم يدركه الأميركيون والأوروبيون ان كلفة ضمان الأمن والاستقرار لا تمر حتماً عبر الحروب، وستبقى معضلات ما وراء الانفلات الأمني وغياب الاستقرار قائمة، فثمة عدو واحد مشترك اسمه الجوع والفقر والمرض يمكن أن تصبح الحرب ضده مشروعة في كل زمان ومكان من أفغانستان الى الساحل جنوب الصحراء مروراً بالصومال وكل بؤر التوتر على البر الأفريقي.